مع دخول جائحة كورونا عامها الثاني، يكافح العراق للتعامل مع أزمة صحية لا تنتهي، ووسط صراع تخوضه المؤسسات الصحية العراقية مع الموجة الثانية من الوباء، فإن إلقاء نظرة خاطفة على طريقة إدارة الأزمة في محافظة ذي قار (جنوبي بغداد) يساعد في إلقاء بعض الضوء على المستوى العالي من الاختلال الوظيفي داخل المؤسسات العراقية.

بملامح حزينة، يستذكر علي عبد الزهرة (٢٧ عاماً)، وهو ناشط وصحفي يعمل في قسم الإعلام بدائرة صحة ذي قار، أيام محنته التي مر بها، وحيداً بلا مساعدة رغم إصابته، وهو يحاول جاهداً إنقاذ عائلته التي دخلت لمركز العزل الرئيسي بمستشفى الحسين التعليمي، أحد أكبر مستشفيات محافظة ذي قار.

رغم إصابته بفيروس كورونا ونقله العدوى لعائلته، لكنه لم يسترح كبقية المصابين وقال لـ (الخط الأحمر) : “بقيت أتنقل بين ردهات المرضى وفي صالات طوابق المستشفى والبحث عن قناني أوكسجين حتى لو كانت فارغة؛ لأتمكن من إغاثة جدتي وأمي بعد تراجع حالتهما الصحية؛ بسبب الإصابة بفيروس كورونا”.

وسجلت محافظة ذي قار (٣٣٦٨٠ حالة إصابة) مؤكدة بين (آذار/ مارس حتى ٢٥ آذار/ مارس ٢٠٢١)، فيما بلغ إجمالي حالات الشفاء (٣٠٩٩٣ حالة)، وبلغ عدد الوفيات (٩٠٢ حالة). مع ذلك، تخفي هذه الأرقام أن المحافظة كانت مرحلة صراع على السلطة أدى إلى تنافس الأحزاب المحلية للسيطرة على المرافق الصحية، مما قوض بشّدة جودة العلاج الصحي للمرضى. 

مستشفيات تغص بالمصابين

يصف عبد الزهرة المشهد القاتم، بعد أن دخل قسم الطوارئ، حيث قام بنقل والدته وجدته بيديه دون أي وسيلة نقل للمرضى، وبينما كان يبحث عن مكان يضعهما فيه، كان قسم الطوارئ بمستشفى الحسين ممتلئاً بحشد هائل من المواطنين والمصابين. صراخ يعلو كل دقيقة، بينما يهرع الممرضون بين ردهات الطوارئ بلا توقف، كما يتحدث علي عن أول لحظات دخول المستشفى. 

“كان العلاج الوحيد الذي يمكن أن يخفف من مشاكل التنفس التي تسببها عدوى كورونا هو توفير الأوكسجين للمرضى، والذي كانت تتم إدارة توزيعه من قبل المرضى أنفسهم”.

ويكمل علي حديثه: “كان عليّ إعطاء أمي وجدتي الأوكسجين أثناء جلوسهما على أرضية إحدى الممرات الهادئة نسبيًا، وبعد فترة وجيزة استقرت حالتيهما، لكن الوضع استمر على هذا النحو لمدة ثلاثة أيام، وبعد ذلك تمكنّا من الحصول على مكان أفضل في الطابق السادس من خلال أحد معارفي في المستشفى”. لقد كانت هذه الأحداث السوداوية مجرد بداية لمحنة علي.

يصف علي الوضع بالقول: “بدأت المحنة في نقل الأوكسجين إلى الطابق السادس، حيث لم تبدأ أزمة نفاده من المستشفى بعد، لكنني كنت أعاني من نقلها بنفسي؛ باعتباري مصاباً وملامساً للمصابين، وليس أمامي سوى نقل القناني بيدي. في هذه الأثناء تراجع وضع والدتي، حاولت أن أنقلها لردهة الإنعاش، ولكن مسؤول الردهة أخبرني أن لديه سريراً واحداً ومحجوزاً وأعتذر عن استقبالي”. ويبدو أن القدر كان يلعب ضد عائلة علي وأقرانه من أبناء محافظة ذي قار بطرق شريرة. كان النقص يلوح في الأفق.

بصرف النظر عن النقص، أدى الخلل الإداري، والذي يمكن أن يعادل الفساد، إلى تدهور كبير في ظروف العلاج داخل المستشفيات العراقية. على سبيل المثال، بدلاً من إعطاء الأولوية لصحة مرضاهم، لجأ بعض طواقم المستشفى إلى إعطاء الأولوية لصحتهم في كثير من الحالات. 

وقال مصدر طبي لـ (الخط الأحمر): “مع تفاقم أزمة كورونا في مستشفى الحسين، و بينما كان العديد من الأطباء يصابون بالعدوى أثناء أدائهم لواجبهم، تم نقل أطباء آخرين من خلال معارفهم إلى مراكز طبية بعيداً عن مراكز علاج الوباء؛ من أجل التهّرب من الإصابة بالفيروس”.

في غضون ذلك، كان عبد الزهرة لا يزال يكافح لإنقاذ أسرته وقرر استخدام طرقاً أخرى من النفوذ، وأضاف، “قررت الاتصال بالمسؤولين والزملاء في وسائل الإعلام وفي قسم الصحة للضغط على المستشفى؛ من أجل تأمين سرير في قسم العناية المركزة، ولكن دون جدوى. لم يكن هناك مكان شاغر”. 

في النهاية، تمكن علي من الحصول على جهاز تنفس لوالدته لكنها توفيت بعد عدة ساعات من استلامهم للجهاز، وتم نقلها إلى الطب العدلي.

ومع ذلك، كان السباق على قناني الأوكسجين يخلق (جلبة) من أجل الوجود لا نهاية لها بين ممرات المستشفى. طوابير انتظار سيارات الأوكسجين التي تجلب القناني من المعامل الأهلية، بعدما تعطل معمل الأوكسجين في مستشفى الحسين التعليمي، وعلى أثر هذه الأزمة فقد الكثير من المرضى حصتهم منه، وتوفي بعضهم بعد استحواذ مرافقين آخرين للمرضى على كميات من الغاز الطبي.

التسابق على الأوكسجين

وصف السيد غايب العميري، عضو لجنة الصحة النيابية، معاناة العراق من خلل في إنتاج الأوكسجين وتوزيعه حيث قال: “الأوكسجين السائل يتم استيراده بشكل غير كاف، حيث يعاني العراقيون من نقص. أما بالنسبة لمحطات الأوكسجين العراقية ما هي إلا محطات إعادة تعبئة”. 

محافظة ذي قار التي يبلغ عدد سكانها حوالي (٢.٥ مليون نسمة) لا تنتج أي أوكسجين وتقوم باستيراد الغاز الطبي المنقذ للحياة من دولة الكويت؛ لتزويد مؤسساتها الصحية منذ سقوط نظام البعث عام (٢٠٠٣). يوجد في مستشفى الحسين التعليمي معمل أوكسجين واحد لإعادة التعبئة فقط، بسعة (٢٥ طناً) في اليوم، بينما يعاني معمل أوكسجين مستشفى بنت الهدى، بطاقة إنتاجية (٢.٧ طن) والواقع على الجانب الآخر من المدينة، من أعطال حالت دون تشغيله.

وأوضح العميري بأن “أزمة الأوكسجين لم تكن حكراً على محافظة ذي قار، فهي تحدث في معظم المحافظات العراقية”. 

وأردف أن “الطلب على الأوكسجين في العراق ككل تضاعف إلى مئات المرات في أيام قليلة فقط”. 

وبعد الارتفاع الكبير في معدلات الوفيات المرتبطة بوباء فيروس كورونا، ولمواجهة النقص، قامت إدارة العتبة الحسينية في كربلاء (جنوبي بغداد) بالإعلان عن تخصيص أموال على عجالة؛ لبناء منشأة لصنع الأوكسجين السائل وتعبئته داخل مستشفى الحسين التعليمي، الأمر الذي ساعد في تخفيف الأزمة وتخفيف الازدحام المتزايد للمرضى، ولكن لم يمنع النقص.

 مشاكل نقل قناني الأوكسجين الطبي وشراء الأدوية باهظة الثمن، أثّرت بشدة على المرضى وأقاربهم. 

وصف علي عبد الزهرة، الذي كان لا يزال يكافح لإنقاذ أسرته، محنته عندما أدرك أن المستشفى لم يعد بإمكانه توفير الأكسجين: “انخفض ضغط الأكسجين في المصنع العام إلى أقل من (١ بار). الأمر الذي دفعنا للبحث عن بدائل في مناطق وضواحي أخرى من ذي قار”.

وأضاف، “اشتريت (٣٠ قنينة أوكسجين) في اليوم، بسعر (ثلاثة دولارات) للواحدة، وحينما نفذت في النهاية اضطررت للذهاب إلى محافظة البصرة لشرائها حيث كان ثمن القنينة (٧ دولارات)”، وقد استمرت معاناته لمدة شهر حتى توفيت جدته.

الخلل الوظيفي في المؤسسات الصحية عميق جداً، حيث تعيق مشكلات التمويل أي محاولة لاصلاح المستشفيات لمرافقها بشكل مناسب. 

وأوضح أبا ذر العمر، النائب الثاني لمحافظ ذي قار لـ (الخط الأحمر) أنه “تولى إدارة المحافظة مؤقتاً”، حيث ترك عادل الدخيلي منصبه في (تشرين الثاني/ أكتوبر ٢٠١٩) للمحافظ ناظم الوائلي الذي عُين في (آيار/ مايس ٢٠٢٠) والذي تمت تنحيته مؤخراً. 

وأضاف، “في ذلك الوقت كانت ذي قار قد حصلت على مليار دينار لمكافحة فيروس كورونا، لكن دائرة صحة المحافظة لم تتلقَ سوى (٥٠٠ مليون دينار) (حوالي ٣٤٢ ألف دولار أمريكي). في الواقع، قام عدد من النواب البارزين بتخريب عملية تسليم الأموال للمؤسسات الصحية في المحافظة بسبب جشعهم”.

اضافة الى ذلك، أكد مصدر من دائرة صحة ذي قار لـ (الخط الأحمر)، أن “مركز العزل الرئيسي كان من المقرر أن يحصل على (٤٠٠ مليون دينار) حوالي (٢٧٤ ألف دولار) في بداية تفشي الفيروس (عدا عن المليار الذي أعلن عنه)، لكن المبالغ تم صرفها في ظروف غامضة دون معرفة أبواب صرف تلك الأموال، ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل شهدت إدارة المستشفى تغيير مدراء لخمس مرات منذ بداية تفشي الجائحة، كذلك شهدت تغيير مدراء عامين مرتين وهو ما يعكس حجم الإرباك بالعمل”.

علاوة على هذا الخلل في الادارة وقضايا الفساد، أدى ضعف التدريب ونقص الأدوية إلى مزيد من التعقيدات بين المرضى. واستذكر مصدر آخر، (رفض الكشف عن اسمه)، الأحداث التي أعقبت وفاة قريبه: “اكتشفت زوجة قريبي أنهم كانوا يعطونه أدوية خاطئة. وعندما واجهت أحد الأطباء، اعتذر لها وأخبرها بأن الزخم الذي يحصل لهم بشكل يومي أربك عملهم مع قلة الكادر المتواجد”.

التدخل السياسي

بحسب أبا ذر العمر، فمن الواضح أن تعطيل محطات الأكسجين كان مقصوداً، حيث قال: “كان فشل مصنع الأوكسجين في مستشفيات (بنت الهدى) و(الحسين التعليمي)؛ بسبب تدخل بعض الأحزاب السياسية التي كانت تستفيد من المصانع الخاصة بها، والتي تبيع أسطوانات الأوكسجين للناس والمؤسسات الصحية”. 

وأشار إلى أن “تدخل الجهات السياسية عميق، وقد أدت إلى تفاقم الأزمة الصحية بشدة حيث وزعت تلك الأطراف مواقع المسؤولية الرئيسية فيما بينها للاستفادة من الامتيازات والأموال، على حساب تطوير نظام صحي موثوق وفعال”.

في الواقع، تفاقمت الفوضى في المستشفيات العامة بشدة بسبب التدخل السياسي. ظاهرة التدخل السياسي وصفها مصدر حكومي في حديثه لـ (الخط الأحمر) و(اشترط عدم الكشف عن هويته) قائلاً: “عقب أزمة الأوكسجين في محافظة ذي قار، حصل عضوان من كتلة سائرون (التي تتبع رجل الدين مقتدى الصدر) على منصبي مدير عام دائرة صحة ذي قار، ومدير قسم الصحة العامة،  بينما حصلت كتلة النهج الوطني المنبثقة من حزب الفضيلة (الذي يتبع رجل الدين الشيعي محمد اليعقوبي) على منصب مدير مستشفى الحسين التعليمي، فيما كان معاون مدير عام دائرة الصحة من نصيب تيار الحكمة”. 

ويضيف المصدر، أن “إدارة الأقسام توزعت بعد الأزمة بين ائتلافي سائرون والفتح، بينما حصة الأسد كانت لسائرون بعد تولي المسؤولية من قبل المدير الحالي سعدي الماجد”.

إن فحص المعضلة الصحية العراقية عن كثب يكشف بالتالي أن الوضع المزري في البلاد، ليس نتيجة نقص المعدات أو القوى العاملة. بدلاً من ذلك، يمكن القول أن إدراج السياسة في عملية الإدارة قد أعاق بشدة قدرة المستشفيات على التعامل مع الوباء.

وبحسب البرلماني عبد الهادي السعداوي، النائب عن محافظة ذي قار، “لا توجد أزمة أوكسجين في المحافظة (فقط)، بل هنالك صراع سياسي على المناصب وعلى المكاسب في صحة ذي قار”، وأضاف بأنّ “الدائرة تعاني من مشاكل كبيرة تحتاج الى معالجة”.

وأوضح المدافع عن حقوق الإنسان والناشط المدني حسين الغرابي قائلاً: “أصبح الخلاف بين كتلتي (سائرون والفتح) على رئاسة دائرة صحة ذي قار أكثر وضوحاً خلال أزمة الأكسجين، حيث اختنق الناس وماتوا وسط الصراع السياسي”. 

موقف قانوني

وصرح الخبير القانوني علي حسين جابر بأن “أهم هدف للمرافق الحكومية هو تقديم الخدمات للمواطنين. واعتمادها الكلي على الدخل الحكومي، فقد عانت وزارة الصحة بشكل كبير من انخفاض أسعار النفط واضطراب الإقتصاد بشكل عام، كما أدت العيوب الهيكلية في الاقتصاد العراقي بسبب الاعتماد على الاقتصاد الريعي إلى تدهور المعايير الاجتماعية والاقتصادية للناس وكذلك الدخل الحكومي”.

وقال جابر: إن “ما حدث في محافظة ذي قار خلال الصيف الماضي أدى إلى أزمة إدارية، مع تراكم سوء الإدارة والتدخل الحزبي داخل المؤسسات العامة، حيث أدى التدخل السياسي إلى تحول إدارات مؤسساتية الى ساحات سياسية لا تنتهي، إذْ تتنافس الأحزاب على الأموال”.

أهم ما يشجع “ذوي النفوس الضعيفة” على الفساد المالي والإداري، بحسب جابر، هو “عدم الشفافية في الإجراءات الإدارية والصرف المالي، مما يعرض الأموال الى النهب دون رقيب أو حسيب، ودون رقابة قانونية سلسة. الغريب أن ما حصل من حوادث ناتجة عن نقص الأوكسجين لمرضى كورونا أو النقص في العلاج المقدم، مرّ وكأنه حوادث عابرة لم تستوجب التحقيق، حيث تتعرض حياة الناس للخطر؛ بسبب النزاعات والمساومات السياسية”.

وبحسب الخبير القانوني، فإن “هذه الأفعال الإجرامية تندرج ضمن باب الجرائم المتعلقة بأعمال المنفعة العامة والاستغلال الوظيفي من نوع الجنايات التي لا تقل عقوبتها عن (سبع سنوات) سجن بحسب نص المواد (٣٥٣/ثاني) و (٣٦٨) و(٣٦٩) من قانون العقوبات العراقي”.

بالإضافة إلى ذلك، توجد هنالك الفجوة الدستورية اليوم، بعد غياب الدور الرقابي لمجلس المحافظة؛ بسبب حلّه، وضعف الأدوات الرقابية الأخرى، أدى إلى استفراد المؤسسات التنفيذية بدورها وفق مبدأ التعسف في استخدام السلطات، فحقق ظاهرة إفلات الجناة من العقاب وتلاشي الردع القانوني.

المخصصات المالية

من جهته، يوضح حيدر حنتوش، المتحدث باسم خلية الأزمة والمدير السابق لدائرة الصحة العامة في ذي قار، أن “المحافظة حصلت على تخصيصات مالية بقيمة مليار دينار عراقي حوالي (٦٩٥٠٠٠ دولار أمريكي) من قبل وزارة الصحة. بالإضافة إلى ذلك، تلقت دائرة صحة ذي قار ما قيمته (مليون دولار) من المستلزمات الطبية من شركة نفط ذي قار”. 

وأشار إلى أن “الأموال التي استلمتها دائرة الصحة لم تكفِ في حينها؛ لأن الاحتياجات كثيرة والأسعار شهدت ارتفاعاً كبيراً مع بداية الجائحة؛ باعتبار أنه ليس هناك خزين من مستلزمات الحماية والمعقمات، وكذلك توقف الخطوط التجارية، مما ضاعف أسعارها بشكل غير طبيعي”. 

وأضاف، أن “المحافظة لم تكن مستعدة للتعامل مع الوباء، حيث تحول مستشفى الحسين التعليمي بأكمله إلى قاعة للعناية المركزة، ولم يحدث في التاريخ الصحي للعراق أن يتحول مستشفى بسعة (٤٠٠ سرير) إلى قاعة للعناية المركزة مثل هذه”.

اليوم، وبعد إصابة عدد كبير من العراقيين بعدوى سلالة فيروس كورونا المتحّور، ستشكل هذه الإصابات تهديداً جديداً لمحافظة ذي قار وسكان العراق بشكل عام. منذ التفشي الأخير، لم يتم تحقيق أي شيء للتغلب على أوجه القصور الهيكلية داخل نظام الرعاية الصحية. كما أن السلالة المتطورة من الفيروس يمكن أن يكون لها آثار مدمرة أكثر من سلفه (كوفد 19).

VIAعلي الأمير