لم يذكر إنَّ شعباً تظاهر واحتج على نظام يدعي إنه ديمقراطي تعددي، ولم ينتج اثاراً بنيوية لاحتجاجاته مثل الشعب العراقي، و الاصعب من ذلك هو أنَّ تلك الآثار البسيطة التي يتغنى بها المحتجون سرعان ما انقلب عليها النظام السياسي بسلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية، وصار يحتمي من الحركة الاحتجاجية، خلف قوانين ضبابية تكون مثل العجينة بيده يشكلها حسب ما يشتهي. 

إلى الآن أذكر أولى ثمار الحركة الاحتجاجية في عام 2010، والتي تمثل الموجة الاحتجاجية الأولى التي شهدها العراق، وكانت ذات الطابع المدني والشعبي، في زمن حكومة نوري المالكي، إذ وضعت هذه الحركة المطالبة بالحرية المدنية وحق التظاهر من أولى اهتماماتها والتفتت الى المشاكل البنيوية التي يعيشها العراق، وكان السبب الرئيس لانطلاقها هو تفسير المادة الدستورية المتعلقة بحرية التظاهر، حيث أصدرت وزارة الداخلية وقتذاك أنظمة جديدة وصفت بالمتعسفة ترمي إلى عرقلة حق الاحتجاج، إذ يطالب البيان الذي صدر بموافقة السلطة منظمي التظاهر بالحصول على موافقة وزير الداخلية ورأي المحافظين قبل تقديم طلب الى مديرية الشرطة قبل 72 ساعة من المظاهرة، وخطورة هذه التعليمات الجديدة إنها جاءت فضفاضة ولم تحدد المعايير التي لجأت اليها وزارة الداخلية التي على ضوؤها يسمح أو لا يسمح في ظلها بالتظاهر، الأمر الذي يعطي السلطة الحق المطلق في تحديد من يحق له التظاهر وفق مزاجها الخاص. 

   وفي ذات العام انطلقت احتجاجات أخرى كانت تحت عنوان (بغداد لن تكون قندهار) ردًا على قرار مجلس محافظة بابل الرامي إلى منع مهرجان بابل للفنون الشعبية، بسبب الفعاليات التي يتخللها المهرجان، والتي عدت من قبل المحافظ مخالفة للشريعة، وثمة سبب اخر للاحتجاجات تمثل في اصدار مجلس محافظة بغداد قرارًا يفضي بإغلاق الحانات والملاهي الليلية، فانطلقت الاحتجاجات منددة بهذه القرارات التي اعتبروها مقيدة للحرية وتحاول اسلمة المجتمع عن طريق العنف والقوة، وتضمنت هذه الاحتجاجات مجموعة من المطالب أهمها اقالة امين بغداد لإخفاقه في تقديم المنجزات، والمطالبة بإصلاح الوضع السياسي ومكافحة الفساد.

الحرية المنكوبة والنظام السياسي المتهالك 

في كل مرة تخفق الحركة الاحتجاجية في تحقيق أهدافها، يعيد النظام السياسي في العراق بناء نفسه من جديد، بذات الاليات والكيفيات التي يفضلها، حتى تلك الأهداف التي استطاعت الحركة الاحتجاجية تحقيقها سرعان ما ينقلب عليها في الوقت المناسب، بالشكل الذي تبدو فيه الإجابة على سؤال، ما الذي حققته الحركة الاحتجاجية في موجاتها المتعاقبة، بانها لا شيء سوى احصائيات جديدة بأسماء القتلى والجرحى والمغيبين والمبعدين من وطنهم قسراً.

قانون حرية التعبير عن الرأي.. إعادة احياء قوانين البعث 

يريد النظام السياسي في العراق إزالة كل ما يهدد وجوده عن طريق المواجهة احياناً والضبط والارغام في احياناً أخرى، ولعل من ابرز الأمثلة على تطويع القانون لخدمة السلطة واستخدامه أداة للقمع هو ما جرى خلال احتجاجات تشرين 2019، اذ يذكر الكاتب والصحفي “عمر الجفال” في كتابه (رائحة الفلفل.. تحليل وتاريخ وسير لانتفاضات العراق) إنه في ظل احتجاجات تشرين وعلى الرغم من استمرار حكومة عادل عبد المهدي للعف كاستراتيجية مركزية لقمع المحتجين، ومع فرض السلطات ما يسمى بالإنذار(ج) في المؤسسات الأمنية يعقد رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان اجتماعاً يضم رئيس الادعاء العام، ورئيس محكمة استئناف بغداد/ الكرخ، والقاضي المشرف على المركز الإعلامي، وتم اصدار بيان تضمن تجريم المحتجين وفق المادة (2) من قانون مكافحة الإرهاب المقر عام 2015، وبحسب الاجتماع فإن هذا القانون يشمل التكتيكات التي لجأ اليها المحتجون مثل الاضراب عن الدوام وقطع الطرق وإيقاف العمل في الموانئ، وعلى ضوء ذلك وفرت السلطة القضائية وسيلة قانونية للتعامل مع المحتجين باعتبارهم ارهابيون( ).

وفي الحديث عن مشروع قانون “حرية التعبير عن الرأي والاجتماع والتظاهر السلميّ” والذي تمت قراءته في مجلس النواب العراقي في شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، هذا القانون الذي يكبل المحتجين بالأصفاد، ويجعلهم ينزلون وينسحبون من الشوارع بأمر السلطة ومزاجها، بالشكل الذي يعيد إلى الاذهان ما حصل في احتجاجات 2010، وكيف صارت السلطة تستخدم القانون كشماعة للقمع والقتل والتغييب، إذ يقفز هذا القانون على قضية موضوع الإبلاغ، والذي يتمحور حول اخطار السلطة بوجود تظاهرة، في زمان ومكان محدد، وهذا ما نص عليه أمر سلطة الائتلاف، وهو ما مطبق حالياً، ويحيلها إلى مزاج رئيس السلطة الإدارية كأن يكون محافظ المدينة أو القائم مقام، في القبول أو الرفض، فضلاً عن غياب آلية أو شروط القبول أو الرفض، الامر الذي يترك رئيس السلطة الإدارية يتحكم وفق ميوله السياسية ورغباته الشخصية، كما أنَّ القانون احتوى على عبارات فضفاضة بالإمكان تجييرها لاتهام أي شخص لا ترغب بسلوكه السلطة من قبيل “الاخلال بالنظام العام والآداب العامة”. 

وفي المحصلة فإن مشروع هذا القانون يعيد الينا العمل بقانون العقوبات العراقي لعام 1969، والذي شرعه حزب البعث المنحل، إذ تنص مواد هذا القانون على عقوبات تصل إلى الإعدام والحبس المشدد لكل من يدعو إلى تظاهرة مرفوضة من قبل السلطة. 

قانون جرائم المعلوماتية.. راية نصر تعلو فوق اسور النظام الهش  

لا يختلف حال مسودة قانون حرية التعبير عن قانون جرائم المعلوماتية، اذ انه يبين مدى شهوة السلطة في تقييد الرأي العام، واضعاف حرية الرأي والوصول إلى المعلومة حتى تبدو الحرية منخورة من الداخل ولا تملك غير اسمها. 

خلال تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، بدأ مجلس النواب العراقي مناقشة جديدة لمسودة قانون جرائم المعلوماتية في محاولة لإقراره، علماً انها لم تكن المحاولة الأولى، إذ سبق ذلك عدة مناقشات جرت خلال الأعوام الماضية باءت كلها بالفشل في ظل الانتقادات المحلية والعالمية، لانتهاكه معايير حقوق الانسان، وحرية الرأي والتعبير وهكذا مر القانون بتأجيلات عدة، وصولاً الى حكومة محمد شياع السوداني، اذ تهيأت ارض رخوة رأت السلطة التشريعية فيها إمكانية تشريع هذا القانون دون معوقات كبيرة، اذ أعلنت لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، في 5 حزيران/يونيو 2022، لإعادة عرض مشروع قانون “جرائم المعلوماتية”، الذي يمنح السلطة الحق في مراقبة ومحاسبة المواطنين على ما يكتبونه على مواقع التواصل الاجتماعي، للتصويت عليه خلال الدورة البرلمانية الحالية، احتوت مسودة القانون على الكثير من العبارات الفضفاضة التي تمكن السلطات من تطبيق العقوبات بكل شخص أو جهة لا ترغب بها.

 ومن أبرز المؤاخذات على القانون المطروح، منح السلطات إمكانية محاكمة المدونين على قضايا مثل إنشاء حسابات إلكترونية بأسماء غير الأسماء الحقيقية لأصحابها، وعدم التفريق بين الانتقاد والسبّ للشخصيات العامة والمؤسسات، وكذلك تقييد الوصول إلى المعلومات وحق نشرها، خصوصاً في ما يتعلق بقضايا الفساد.

وفي المحصلة يبدو ان الفكرة الكامنة وراء صياغة القانون، هي تقنين حرية التعبير وفقاً لمصلحة السلطة من جهة، والإبقاء على إمكانيات التأويل المفرط لمواد القانون بما يُتيح استخدامه أداة حقيقة لقمع حرية التعبير ومصادرته، بالشكل الذي يبدو فيه ان حرية الرأي مقيدة حسب الامزجة وليست متاحة، وتسعى الى تأييد النظام وسلوكياته ووأد كل بادرة احتجاجية قد تظهر من المجتمع في المستقبل. 

وهذا ما أكدته منظمة “هيومن رايتس ووتش” (HRW)  والتي أصدرت بياناً عقب محاولة تشريع القانون في عام 2021، اذ قالت في بيانها إنّ “القانون كان سيسمح للسلطات العراقية بمقاضاة أي شخص يكتب على وسائل التواصل الاجتماعي أو ينشر على الإنترنت، لا يتوافق مع رؤية السلطات، من خلال اعتبار المحتوى تهديداً للمصالح الحكومية أو الاجتماعية أو الدينية”.

 وتقول المنظمة بأن العقوبات القاسية التي يفرضها القانون، بما في ذلك الغرامات الباهظة والحد الأدنى من أحكام السجن، يمكن أن يكون لها تأثير مباشر على حرية الرأي والتعبير. 

ومن زاوية النطاق العقابي، يرى الباحث والكاتب الدكتور فارس كمال نظمي  إنًّ” مسودة القانون تقتصر على تجريم الأفراد دون غيرهم فيما يخص استخدامهم (غير القانوني) للحاسوب والانترنت، متجاهلة أي انتهاكات مماثلة محتملة يمكن أن ترتكبها التنظيمات السياسية والدينية أو الدولة بسلطاتها الثلاثة ودوائرها السياسية والعسكرية والأمنية والتكنولوجية والإعلامية ضد الأفراد والحق العام، فما صار يُعرف بالجيوش أو (الميليشيات) الإلكترونية، التي تمولها دول وأحزاب، لتسقيط الخصوم وتهديدهم وترويعهم وشيطنتهم واغتيالهم معنوياً، تتجاهله مسودة القانون كلياً، بل تذهب إلى عدّ الجريمة الإلكترونية جناية شخصية فحسب، يرتكبها الفرد ضد الدولة المغلوبة على أمرها”. 

بالإضافة الى ما تقدم يرى نظمى، إنًّ “هذه المسودة تذهب بعيداً في تقييد الحريات بدل إتاحتها، عبر تعظيم مصطلحات غامضة لا معنى حصري لها وإعطائها صفة الإطلاق رغم إمكانية تأويلها بلا حدود، مثل المساس باستقلال البلاد و وحدتها وسلامتها، والتعامل مع جهة معادية، وزعزعة الأمن والنظام العام أو تعريض البلاد للخطر و الإساءة إلى سمعة البلاد، و إضعاف الثقة بالنظام المالي الإلكتروني، و الإضرار بالاقتصاد الوطني و الاعتداء على أي من المبادئ أو القيم الدينية أو الأخلاقية أو الأسرية أو الاجتماعية، وغيرها. وتضع في مقابل أي ارتكاب لهذه البنود عقوبات جسيمة تصل في عدد من الحالات إلى السجن المؤبد والغرامة بملايين الدنانير.”

كما أن هذه المسودة تخلط حق حرية التعبير السياسي المكفولة طبيعياً ودستورياً، بجرائم أخرى واضحة لا جدال فيها، فهذا الخلط المقصود هو محاولة تمويهية لتمريرٍ ناعمٍ لبنود القمع السياسي وسط بنود جرمية أخرى مفروغ منها (كالاحتيال والقرصنة والتزوير والابتزاز الإلكتروني)، فضلاً عن أن القانون العراقي قد تعامل مع المضمون الجوهري لهذه الجرائم (سواء كان إلكترونياً أو غير إلكتروني) وحدد عقوباتها منذ بدايات التشريع في الدولة العراقية.

الثورة المضادة وأول ضحايا القانون

مع وصول السوداني إلى سدة الحكم، على رأس حكومة اطارية واضحة الولاء للجانب الإيراني، يبدو أنَ تصفية الحسابات قد بدأت مع الحراك الاحتجاجي، مع الاخذ بنظر الاعتبار ما احدثته احتجاجات تشرين من هزات عنيفة داخل النظام السياسي ودورها في تهشيم التحالفات الكبرى، وشحن الرأي العام وتعرية النظام السياسي امام المجتمع الدولي، لذلك نجح هذا النظام في الانتصار بحسب مقاييسه في مجالين في الأول: هو القمع والتنكيل وهذا ما تشهد به الاحصائيات التي تبين اعداد الشهداء والجرحى والمعاقين أعاقة دائمة والمغيبين.

 والثاني: في المجال التشريعي، اذ تسعى هذه الحكومة، إلى تشريع كل ماله صلة بحرية الرأي والتعبير، لأن ذلك من شأنه أن يكشف المستور وربما تنمو تشرين أخرى تكون أكثر عنفواناً وصمودًا.

 ان النظام باختصار يريد من هذه القوانين أن يمنع الناس من رؤية الشر الأكبر الشر الكامن في هذا النظام المبني على أسس المحاصصة والطائفية وتقاسم مغانم الدولة، ومن يحاول منهم رؤية شيء ويعترض، يصنف بكونه أحد مجرمي الفكر، يريد أن يقول نحن هنا كي لا تعرفوا. 

وفي سياق الجدل المشتعل حول قانوني جرائم المعلوماتية وحرية التعبير والتظاهر، أقدمت الميليشيات المنضوية تحت عنوان الحشد الشعبي على اعتقال الناشط والمحتج، حيدر الزيدي، بعد تغريده له عبر حسابه في توتير انتقد فيها السلوك الاجرامي للميليشيات الموالية لإيران، اعتقل الزيدي في يونيو/حزيران من العام الماضي، من خلال قوة تابعة لهيئة الحشد الشعبي، ثم خرج من المعتقل بكفالة محل إقامته، لكنه كان يعاني من مشاكل صحية وبدنية كبيرة جرّاء التعذيب الذي تعرض له خلال فترة اعتقاله التي تجاوزت عشرة أيام، تحت ذريعة إهانة مؤسسات الدولة! تؤكد لنا حادثة اعتقال الزيدي على تماهي السلطة القضائية مع الأحزاب والفصائل المسلحة، لأنه يترك سرّاق المال العام من دون محاسبة، في حين يطبق شروطه الصارمة على ناشط ومتظاهر كتب موقفه السياسي على مواقع التواصل الاجتماعي، ورغم الاحتجاجات المناهضة لاعتقال الزيدي، فانه صدر بحقه حكم قضائي بالحبس الشديد لمدة ثلاث سنوات. 

VIAعلي فائز