تجربة حديثة، لكنها قطعت شوطا كبيرا ودخلت دورتها الخامسة. البرلمان العراقي، حكاية إخفاقات متتالية وبدأت تتراكم دون وضع معالجات حقيقية لها بغية إنجاحها ليمارس البرلمان دوره التشريعي والرقابي الحقيقي بدقة وكما نصت على القوانين والدستور. 

بدأت الإخفاقات النيابية، بالتحول إلى ما يشبه العرف، وكل إخفاق لحقه آخر، في ظل تجذر الكتل السياسية بمختلف مسمياتها ومكوناتها وقوتها التي تكبر يوما بعد آخر، حتى أصبح البرلمان حكرا بيدها وليس ممثلا للشعب والناخبين، وهذا ما أقر به العديد من النواب، فهذه المؤسسة التي تعد أهم ركيزة في النظام الديمقراطي، تحولت إلى أداة سياسية هدفها الحفاظ على التخادم بين القوى الكبيرة، صاحبة العدد الأكبر من المقاعد. 

تشريع القوانين والرقابة على عمل المؤسسات التنفيذية، أبرز مهام البرلمان، لكن الفشل كان حليفه بتنفيذها، فلم يقدم على تشريع أي قانون قبل خضوعه لـ”توافق” الكتل السياسية، وهذا المصطلح يعد حديثا في السياسة العراقية، والذي يتمحور حول إجماع الكتل السياسية على مشروع القانون وتقديم تنازلات فيما بينها وإجراء التعديلات وفقا لما تطلبه الكتل، حتى يصل للمرحلة الأخيرة وهي التشريع، ليطلق عليه “مرر بالتوافق”. 

وإلى جانب “التوافق” الذي يحكم عمل البرلمان، فأنه شهد انتكاسة إدارية كبيرة، من ناحية عدد النواب الحضور في كل جلسة وعدم محاسبة النواب المتغيبين أو إتخاذ الإجراء الإداري بحقهم، فضلا عن عدم التزامه بعدد الجلسات المحدد له في كل فصل تشريعي، وهذا الاخفاق، سيفرد له “الخط الأحمر” فصلا في التقرير أدناه، مدعم بإحصائية خاصة لهذه السنة التشريعية الحالية. 

وصادف يوم 30 حزيران يونيو الماضي، اليوم العالمي للعمل البرلماني، وفقا لما حددته الأمم المتحدة، والذي يركز على أهمية الدور الذي تضطلع به البرلمانات في وضع الخطط والاستراتيجيات، وترجمة الإلتزامات الدولية إلى سياسات وتشريعات وطنية، وضمان تحقيق الشفافية والمساءلة التي تعد وغيرها من المهام جوهرا أساسيا في النظام الديمقراطي.

العصائب تقر بـ”الكارثة”! 

ما يحدث في البرلمان العراقي، ليس وليد هذه الدورة الخامسة الحالية، بل له جذوره قديمة، وستكون البداية من الدورة الرابعة السابقة، وتلك الدورة لم يتمكن النواب من تحقيق 50 بالمئة من وعودهم الانتخابية التي طرحوها وساهمت بوصولهم لقبة البرلمان، كما يؤكد النائب السابق عن كتلة صادقون المرتبطة بحركة عصائب أهل الحق أحمد الكناني.

وتعد حركة عصائب أهل الحق، من الفصائل المسلحة البارزة في العراق، قبل أن تتحول للعمل السياسي وتحصل على وزارات منذ حكومة عادل عبد المهدي المستقيلة في عام 2019. 

“الكثير من الانظمة الديمقراطية في العالم تحكم عبر النظام البرلماني، وهو نظام ناجح، لكن تطبيقه في العراق فشل، على مستوى الرقابة والتشريع، والسبب هو التوافقات السياسية، فهناك قوانين كان من المفترض أن تقر من الدورة الثانية للبرلمان، لكنها لغاية الآن مركونة بسبب خلافات الكتل السياسية حولها”، كما يقول الكناني. 

والأمر يمتد للدور الرقابي، وبحسب الكناني، فأن البرلمان أخفق أيضا بدوره هذا نظرا للتخادم بين القوى السياسية، واصفا هذا الدور المهم للبرلمان بـ”المغيب”. 

وحول ما تحقق من البرامج الانتخابية التي طرحها النواب خلال فترة ترشيحهم، فأن هذه البرامج هي الأخرى لم تتحقق ولم يفي النواب بوعودهم التي قطوها للناخبين، حسب تأكيد الكناني، حيث يوضح تجربته الشخصية بالقول “لم أحقق سوى 50 بالمئة من برنامجي الانتخابي فقط، بسبب المشاكل في البلد ومشاكل البرلمان”. 

ولعل من المؤاخذات على عمل البرلمان هو غياب النواب الكبير في كل جلسة، وهذه من المشاكل المزمنة، ووقا لاقرار الكناني فأن أكثر من 100 نائب كانوا يتغيبون عن الجلسات في الدورة السابقة، خاصة وأن بعض النواب “دخلوا البرلمان لأجل مصالح خاصة، ولا يمهم حضور الجلسات”. 

مصادرة الرأي! 

إلى جانب فقدان البرلمان للعمل التشريعي والرقابي، فأن كتله الكبيرة عمدت إلى “مصادرة حق إبداء الرأي”، كما يقول النائب المستقل في الدورة الحالية باسم خشان. 

تجربة البرلمان العراقي، وفقا لرؤية خشان، فهي “غير ناجحة”، بسبب سيطرة الأحزاب والكتل الكبيرة، حتى وصل الحال إلى أن القوانين أصبحت “أداة سياسية” بيد هذه الأحزاب. 

ويؤكد النائب المستقل، أن رئاسة مجلس النواب لم تعمل على محاسبة النواب المتغيبين، خصوصاً ان هناك بعض النواب لا نعرفهم بالأساس، فهو لم يحضروا الجلسات طيلة الدورة البرلمانية الحالية، عازيا سبب عدم المحاسبة إلى “المجاملات السياسية والصفقات والمحاصصة”.

وجرت في 30 كانون الثاني يناير 2005، أول انتخابات تشريعية في البلاد، انتخب خلالها الشعب العراقي أعضاء “الجمعية الوطنية الانتقالية” كما سميت في ذلك الوقت، بعضوية 275 نائبا.

وقد أفرز برلمان 2005، اختيار جلال طالباني لرئاسة الجمهورية، وغازي عجيل الياور وعادل عبد المهدي نائبين له، بالإضافة الى انتخاب إبراهيم الجعفري رئيسا للوزراء، حيث سميت بالحكومة الانتقالية، فيما شهدت تلك الانتخابات مقاطعة ممثلي المكون السني في ثلاث محافظات: نينوى وصلاح الدين والأنبار، قبل أن يصبح منصب رئيس البرلمان من حصتهم في الدورات اللاحقة.

يشار إلى أن حاجم الحسني، تسنم منصب رئيس البرلمان بصفته أول شخصية سنية في أيار مايو 2005، ليبدأ عرف سياسي جديد يقوم على تقسيم الرئاسات الثلاث حسب المكونات.

بالأرقام.. البرلمان خارج الخدمة! 

ويحصي موقع “الخط الأحمر”، عدد جلسات البرلمان منذ بدء الدورة الخامسة الحالية في كانون الثاني يناير 2022 ولغاية إنتهاء الفصل التشريعي الأول من السنة التشريعية الثانية، خلال الشهر الحالي، أي بعد إقرار الموازنة. 

ويبدأ الإحصاء من الفصل التشريعي الأول للسنة التشريعية الأولى، حيث عقدت الجلسة الأولى للبرلمان في 9 كانون الثاني يناير من العام الماضي، وفيها تم انتخاب محمد الحلبوسي رئيسا للمجلس، ومن ثم توقف حتى شهر شباط فبراير. 

في فبراير، أخفق البرلمان بعقد جلستين لانتخاب رئيس الجمهورية، لينتقل إلى شهر آذار مارس، وفيه عقد 4 جلسات، ومن ثم غابت جلسات البرلمان بشكل كامل خلال شهر نيسان أبريل ولم يعقد أي جلسة.

وفي شهر آيارمايو، عقد البرلمان 4 جلسات أيضا، وفي شهر حزيران يونيو، عقد جلسة واحدة صوت في حينها على تمرير قانون الدعم الطارئ للأمن لغذائي والتنمية، لينهي فصله التشريعي بعقد 11 جلسة فقط. 

وفي الفصل الثاني من السنة التشريعية الاولى، الذي بدأ في تموز يوليو 2022، عقد البرلمان، عقد البرلمان 16 جلسة فقط، وهذه تضاف إلى 11 جلسة عقدها في الفصل التشريعي الأول، ليكون مجموع جلساته 27 جلسة فقط خلال السنة التشريعة الأولى، من أصل 64 جلسة مقررة في نظامه الداخلي.

وجاء تسلسل الجلسات كالتالي: جلسة واحدة في شهر يوليو، وتعطل عمله طيلة شهر آب أغسطس، ومن ثم عاود نشاطه في شهر أيلول سبتمبر، وفيه عقد أيضا جلسة واحدة فقط.

وفي شهر تشرين الأول أكتوبر، عقد البرلمان 5 جلسات، وفي ذلك الشهر جرى انتخاب رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد، ومنح حكومة محمد شياع السوداني الثقة.

وفي شهر تشرين الثاني نوفمبر، عقد البرلمان 7 جلسات، وفي شهر كانون الأول ديسمبر، عقد المجلس جلستين فقط.

بعد اختتام السنة التشريعية الأولى للبرلمان، ودخول البرلمان بعطلة لشهر واحد، بدأ في شهر كانون الثاني يناير 2023، الفصل الأول من السنة التشريعية الثانية، وعقد في هذا الفصل 31 جلسة، منها 4 جلسات خاصة بإقرار قانون الموازنة، التي استغرق تمريرها 5 ليال. 

وتوزعت الجلسات بواقع 3 في كانون الثاني يناير، وفي شباط فبراير عقد 6 جلسات، وفي آذار مارس عقد 7 جلسات، وفي نيسان أبريل عقد 5 جلسات، وفي آيار مايو عقد 5 جلسات وفي حزيران يونيو عقد 4 جلسات.  

وخلال هذا الفصل، أٌر البرلمان قانون الانتخابات المحلية والنيابية وفق نظام سانت ليغو، الذي أُار جدلا كبيرا وجوبه بالرفض من النواب المستقلين. 

لينهي البرلمان بهذا سنة تشريعية واحدة وفصل من السنة التشريعية الثانية، بعدد جلسات كلي بلغ 58 جلسة، من أصل 96 جلسة وهي العدد المحدد لثلاثة فصول تشريعية. 

وحول هذا الأمر، يوضح الخبير القانوني جمال الأسدي، آلية عمل المجلس والأرقام المحددة بنظامه الداخلي، بالقول أن “لمجلس النواب دورة انعقاد سنوية بفصلين تشريعيين أمدهما ثمانية أشهر، وكل فصل يتكون من اربعة أشهر”.

ويكون عدد جلسات كل فصل تشريعي 32 جلسة، بواقع 8 جلسات كل شهر، حسب ما يؤكد الأسدي، مبينا “هذا ما حدده النظام الداخلي لمجلس النواب”.

وفيما يخص الجهة الرقابية على أداء البرلمان، خاصة وانه أخفق بتطبيق نظامه الداخلي، يشير الخبير إلى أنه “من ناحية الرقابة على اعمال مجلس النواب، فأن مجلس النواب هو من يراقب عمله من ناحية الاداء، ولا توجد سلطة عليه”. 

إعادة هيكلة 

وبالتوجه إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، فأن النائب عنه في الدورة السابقة أحمد الصفار، أكد بوضوح حاجة البرلمان العراقي إلى “إعادة هيكلة” وتنظيم من حيث إمكانيات النواب التشريعية والرقابية.

“التوافق”، هو ما يحكم عمل البرلمان، وفقا للصفار، سواء على الدور الرقابي أو التشريعي، ولا يمكن أن يمرر أي شيء دون موافقة الأحزاب والكتل السياسية جميعها، حيث انسحب الأمر على تقديم مقترحات مشاريع القوانين من قبل بعض النواب المنتمين للكتل السياسية او المستقلين، فعند تقديمهم أي مقترح يصطدم بمواقف الكتل السياسية أو مواقف قادة كتلهم، كما يشير النائب السابق.

وما يجري، يؤكد أن هذه الكتل هي من تقود كل شيء في العراق، وحتى الاقتصاد، ومنها مشروع قانون الموازنة، الذي يمرر وفقا لتوجهات القوى السياسية، وليس للرؤية الاقتصادية، بالتالي تكون موازنة “سياسية” وليس اقتصادية أو مالية، كما يقول الصفار.

وكانت استجوابات الوزراء من أبرز النقاط الغائبة عن دور البرلمان، وجرت مرة واحد وبدعم سياسي، ويعلق الصفار على هذا الأمر بالقول “الاستجوابات تعتمد على التوافقات، إذ من غير الممكن استجواب وزير إلا بموافقة الكتلة التي ينتمي لها الوزير، وعندما يتم تقديم طلب من قبل نائب بخصوص استجواب وزير معين، فسيواجه بممانعة كتلة الوزير، أو عليه أن يمرر الاستجواب بتوافق كافة الكتل الأخرى، وهذا امر نادر”.  

وخلال شهر حزيران يونيو 2023، أقر البرلمان قانون الموازنة، وهي لثلاث سنوات، وذلك بعد صراع سياسي أستمر لقرابة شهرين، حول بعض بنودها وخاصة المتعلقة بإقليم كردستان، حيث اعترض الأخير على تغيير بعض بنود الموازنة ووجدها تضر بـ”مصالحه”، وقد شن الحزب الديمقراطي الكردستاني هجوما على مجلس النواب وأعضاء اللجنة المالية في البرلمان، الذي أجروا هذه التعديلات، ووصفها بـ”أنفال جديدة”. 

وفي كل عام يتجدد اللغط حول الموازنة، ودائما ما تأخذ قرابة 5 أشهر من العام حتى تقر، نظرا للخلافات السياسية حولها، دون الأخذ بنظر الاعتبار الأمور المالية والاقتصادية، فكل موازنة تأتي محملة بالقروض، ولاسيما الأخيرة التي قاربت الـ198 ترليون دينار، وكانت مثقلة بقروض دولية تصل قيمة كل قرض إلى 3000 مليار دولار. 

ويعد قانون النفط والغاز وتعديل الدستور وقوانين أخرى، من أبرز القوانين المعطلة في البرلمان، لم تقر حتى الآن بسبب الخلافات السياسية بشأنها. 

يذكر أن المادة 18 من النظام الداخلي لمجلس النواب، المقر سنة 2006، نصت الفقرة ثانيا منها على: لهيئة الرئاسة في حالة تكرر الغياب من دون عذر مشروع خمس مرات متتالية او عشر مرات غير متتالية خلال الدورة السنوية أن توجه تنبيهاً خطياً إلى العضو الغائب تدعوه إلى الالتزام بالحضور وفي حالة عدم امتثاله لهيئة الرئاسة يعرض الموضوع على المجلس بناءً على طلب الهيئة.

ائتلاف المالكي يدافع

لكن في ظل تأكيد مختلف الكتل النيابية والمستقلين، على فشل تجربة البرلمان العراقي، يرى ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي، أن هذه التجربة ورغم حداثتها والملاحظات التي تشوبها، إلا أنها “ناجحة”.

ووفقا للنائب الحالي عن ائتلاف دولة القانون  عارف الحمامي، فأن البرلمان شرع قوانين “تخدم العراق والعراقيين”، لكن في نفس الوقت، فأنه بحاجة إلى تطوير عمله من خلال ممارسة دوره الرقابي والتشريعي.

كما ينفي الحمامي تهمة أن البرلمان “أداة سياسية”، بل يرى أنه يعمل وفق الأغلبية السياسية، معللا هذا التوجه بـ”ان نظام الأغلبية معمول به في كل برلمانات العالم، والكثير من القوانين لا يمكن أن تمرر دون وجود اتفاق سياسي عليها، فهناك قوانين تحمل أجندة سياسية أكثر مما هي قانونية أو فنية”.

VIAالخط الأحمر/ سام محمود