رأسمالية كلاسيكية أم تطبيقات اشتراكية؟ .. فوضى الاقتصاد العراقي تعكس فوضى النظام السياسي

يُعبر النموذج الاقتصادي في أي نظام سياسي في العالم عن فسلفته في إدارة الدولة تبعًا لايدلوجيا النظام القائم وتصوراته عن المفاهيم الأساسية كمفهوم الدولة والمجتمع والأمة والهوية. وتبعًا لذلك، تنسحب هذه التصورات على تنظيم الحياة العامة والخاصة للأفراد والجماعات بشكل عام في كافة جوانبها السياسية والاقتصادية والثقافية أيضًا.

فضلًا عن ذلك، يعكس النمودج الاقتصادي للدولة عن طبيعة علاقة المجتمع بالدولة، والكيفية المتبعة في تنظيم علاقة الأفراد، الاقتصادية تحديدًا، فيما بينهم، بوصفها شبكة علاقات أفقية واسعة ومتشعبة يكون الضامن الأساس فيها التشريع القانوني المستمد من طبيعة النموذج الاقتصادي والذي يعبر في آخر المطاف عن طبيعة الحياة الاقتصادية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ينظم النموذج الاقتصادي شبكة العلاقات العمودية بين الفرد والدولة وما له وما عليه اتجاهها. 

وعن طريق النموذج الاقتصادي، يمكن الكشف عن طبيعة الديناميات/البواعث الاجتماعية لصناعة مراكز القوى المؤثرة في المجال العام، وتحديد علاقات التأثير المتبادلة لدور الأفراد في صناعة هذه المراكز والعكس، حيث تلعب سلطة/هيمنة المراكز هذه دورًا كبيرًا في تشكيل وعي الفرد وسلوكه وفرض قيم معينة وإعادة إنتاجها وإنتاج دور الفرد أيضًا؛ الأمر الذي يؤثر، في المحصلة، على شكل السلطة وبنيتها وكيفية إعادة إنتاجها هي الأخرى في حركة ديالكتيكية مستمرة. 

الرأسمالية الكلاسيكية في العهد الملكي

حين شرع البريطانيون في تأسيس المملكة الجديدة في العراق، بعد اصطدامهم بحقيقة أن طبيعة المجتمع العراقي لا تشبه المجتمعات التي استعمروها سابقًا، والتي لا يمكن حكمها بشكل مباشر من قبلهم – كما في تجارب جنوب وجنوب شرق آسيا – كانت البلاد خربة كبيرة لا زالت تقبع في عصر ما قبل الثورة الصناعية، حيث يسيطر النمط الزراعي على بنية الاقتصاد العراقي، وهو اقتصاد غير ممنهج أو مخطط بطريقة تواكب ما هو موجود في الاقتصاديات العالمية حينها، إذ عمدت السلطات العثمانية إلى هذا النمط البدائي غير الممنهج لتوطين القبائل من جهة، واسترضاء زعاماتها من جهة أخرى، لضمان سلطة الوالي العثماني في بغداد، من دون أي تمردات قبلية واسعة تزعزع قبضته على ولايات العراق الثلاث، إضافة إلى ضمان استحصال الضرائب من ملاك الأراضي. وبعبارة أبسط وأكثر تكثيفًا للمشهد التاريخي حينها : كان العراق “كيس خِراج” مهم لخزينة العثمانيين، ولذا عمدت اسطنبول إلى عدم زعزعة استقراره بدفع الاقتصاد نحو نموذج أكثر حداثة، مضافًا إلى عدم امتلاك السلطات العثمانية إلى تصورات حداثية أصلًا. 

واجه البريطانيون ذات المشكلة بعد تنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكًا على العراق. كان سلطان الملك الجديد ضعيفًا، إذ لا سبيل لكسب ولاء الزعامات القبلية التي ورثت ملايين الدونمات الزراعية من الفترة العثمانية، إلا ببسط أيادي هذه الزعامات أكثر فأكثر على ما هو في أيديهم أصلًا، ففي مجتمع قبلي يحظى فيه رؤساء العشائر بسلطة واسعة على الأفراد، لا يمكن بسط سلطة أمير حجازي إلّا بمغازلة هذه الزعامات، أو حتى شراء ولاءاتهم عبر السماح لهم بممارسة السلطة في مناطق نفوذهم مقابل منح البريطانيين الاستقرار الضروري لإرساء ركائز الدولة الحديثة. 

 وتذكر المصادر التاريخية أن البريطانيين استثمروا التركيبة الاجتماعية والثقافية وتأثيراتها على نمط الاقتصاد السائد حينها لصالح الاقتصاد البريطاني المهيمن على الاقتصاد العالمي ذلك الوقت، تذكر ورقة بحثية منشورة ضمن الدوريات العلمية لجامعة بابل أن : ” بريطانيا سعت لبسط هيمنتها على القطاع الزراعي عبر توسيع صلاحيات الشيوخ وجعلهم مسؤولين عن تنظيم الفعاليات الانتاجية، مستغلة بذلك المكانة الاجتماعية التي يحظى بها، وعلى الرغم من وجود السلطة الوطنية الرسمية إلا ان هيئة المستشارين البريطانيين كانت لها الحظوة الأكبر والقول الفصل بإدارة أي نشاط في مجال المشاريع الزراعية حيث سعت المصلحة البريطانية لتحويل العراق نحو الانتاج الواسع للمحاصيل النقدية” 

أما عن طبيعة انعكاس السياسات الرأسمالية للبريطانيين على حركة تطور الاقتصاد العراقي، فيذكر الدكتور كال علاوي في كتاب تاريخ العراق الاقتصادي أن : ” مظاهر التخلف في الاقتصاد العراقي كانت ولا تزال تتمثل في اختلال بنية الاقتصاد إذ كان القطاع الزراعي هو المهيمن على هيكل الإنتاج، حيث تسود علاقات الإنتاج الإقطاعية فيه، وضآلة إسهام القطاع الصناعي في تكوين الناتج وغلبة الطابع الاستهلاكي على منتجاته، وتدهور مستويات الإنتاجية والدخل والاستثمار والاستخدام، واختلال الموازين الرئيسة في الاقتصاد كالميزان التجاري وميزان المدفوعات والموازنة العامة، وكلها تعكس سمات التخلف التي كان يتصف بها الاقتصاد العراقي”

وبطبيعة الحال كان للسياسات الرأسمالية للبريطانيين الدور الأكبر في تشكيل الملامح الأولى لتشكل الطبقات الاجتماعية، لكنها نتيجة لهذه السياسات لم تكن ملامح تشكيل مجتمع طبقي قادر على خلق صيرورات تاريخية لدفع البلاد نحو حالة ازدهار، حيث يذكر الدكتور في كتابه تاريخ العراق الاقتصادي أن : “الطبقات الاجتماعية لم تكن مستقرة ولم تتميز بالثبات خلال المدة  1922-1958 ، حيث كان الحراك الطبقي سريعاً، سواءً بين الطبقات أو في داخلها صعوداً وهبوطاً. وقد نتج هذا الحراك عن عوامل كثيرة، أهمها سياسات تسوية الأراضي التي أثرت بقوة في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في الريف، والهجرة الداخلية واختلال هيكل السكان، فضلاً عن العوامل السياسية وعدم الاستقرار السياسي الذي اتسمت به هذه الحقبة” 

من هذه الحالة التي كانت يعيشها العراق حينها، نشأ التحالف التاريخي بين ثلاثية “السلطة – القبيلة – الدين” والتي حافظت على هياكل السلطة الجديدة وساهمت بخلق حالة بدائية لمجتمع طبقي، إذ تعززت العلاقة الزبائنية بين أضلع هذا المثلث التاريخي، وخلقت حالة رأسمالية زراعية تشبه حالة المجتمعات الأوروبية قبل نشوء القاعدة الصناعية وظهور طبقة العمال. 

ومع رحيل الملك الأول، وتنامي نفوذ طبقة “الضباط الشريفيين” وتأثيرهم المتزايد في الحياة السياسية، وتصاعد الصراع بينهم على السلطة، الذي غذى القبائل أحيانًا بمزيد من الدعم، لكسب بعض الزعامات في هذا الصراع، تشكلت حالة مضاعفة من القهر والاضطهاد حيث واصلت منظومة الحكم الانغلاق على نفسها وصارت عملية تداول السلطة محصورة بأوليغارشيا الضباط الشريفيين، بموازاة تنامي سلطة ملاك الأراضي ورؤوس الأموال، الحالة التي خلقت بدورها طبقة مسحوقة من الفلاحين وطبقة أخرى أصغر من العمال مع بداية الحياة الصناعية في العراق. 

أن تلاقي حالة الاستبداد السياسي من جهة، والاضطهاد الطبقي من جهة أخرى، سارع خلق حالة انفصام بين النظام السياسي وركائزه الاقتصادية المتمثلة بالإقطاع وأصحاب رؤوس الأموال، وبين باقي شرائح المجتمع، الأمر الذي مهد الأرضية لانتشار نقيض هذه الحالة السياسية/الاقتصادية المتمثلة بالاستبداد والرأسمالية الكلاسيكية البدائية، وهنا نعني تشكل الخلايا البؤرية الصغيرة للاشتراكيين العراقيين في وسط وجنوب العراق، وهي المناطق الأكثر تضررًا من ثنائية الاستبداد والرأسمالية، حيث تزامنت حالة توفر الأرضية للاشتراكية مع السنوات الأولى لانتصار الثورة البلشفية وانتشار مبشريها في الآفاق، إذ دخلت الأدبيات الماركسية إلى العراق في تلك الفترة وتلاقفتها بعض الخلايا والتي أسست بعد بضع سنوات الحزب الشيوعي العراقي. 

التطبيقات الاشتراكية بعد قيام الجمهورية

بعد وصول النظام الملكي إلى لحظة انهياره الحتمية، وسقوطه على يد الجيش، ومن ثم إعلان قيام الجمهورية العراقية، كانت الأرضية ممهدة أمام النظام الجديد لإنفاذ وتطبيق تصوراته المبنية على قيم العدالة الاجتماعية بشكل عام، والتي بانت في أعلى تجلياتها بقانون الإصلاح الزراعي الذي حد بشكل كبير صلاحيات الشيوخ في إدارة العمليات الانتاجية الزراعية، ساحبة بذلك جزءًا واسعًا من صلاحياتهم في مناطق نفوذهم الخاصة. وبرغم اندفاع النظام الجديد لمعالجة الاختلالات الاجتماعية الكبيرة على مستوى سوء توزيع الثروة نتيجة فرض السياسات الاقتصادية البريطانية خلال الفترة الملكية، إلّا أن النظام لم يعمل على تحويل النموذج الاقتصادي العراقي نحو الاشتراكية بشكل واضح وبصورة ثورية على الرغم من النفوذ السياسي والشعبي الكبير للشيوعيين الموالين للنظام والتيار العروبي والناصري المعارض والداعي للاشتراكية في ذات الوقت. 

لم تظهر الاشتراكية كتطبيق مباشر في الاقتصاد العراقي إلّا بعد وصول عبد السلام عارف إلى السلطة، حيث أنفذ عارف جملة من التطبيقات الاشتراكية بشكل قسري في الحياة الاقتصادية متأثرًا بالتجربة المصرية الناصرية وتطبيق ما كان يعرف حينها بـ”الاشتراكية العربية” ، لكن هذه التطبيقات لم تجعل من الاقتصاد العراقي اشتراكيًا بقدر ما كان خليطًا غير متجانس من الرأسمالية والاشتراكية، والتي لا يمكن وصفها بنموذج الاقتصاد المختلط، إذ أن استيراد التجربة المصرية، والتي لم تنجح في مصر نفسها، لم يك مدروسًا بالقدر الكافي لمعرفة الديناميات الاجتماعية والبنى التي يقوم عليها الاقتصاد في العراق، حيث كان نقل التجربة مبنيًا على رغبة عارف المتأثر بعبد الناصر بتكرار تجربة مصر ليس إلّا. 

بعد وصول حزب البعث إلى السلطة، وتأميم الثروة النفطية، واتساع عمليات الانتاج والتصدير النفطي بشكل غير مسبوق، بانت الملامح الأولى للنموذج الاشتراكي حيث ساهم تحول شكل الاقتصاد إلى شكله الريعي، بالتزامن مع هيمنة الايدلوجيا الشمولية للبعث، في خلق حالة “الدولة المالك المنتج المهيمن” 

عن هذه الحالة، يوضح الخبير الاقتصادي عامر الجواهري خلال حديثه لـ”الخط الأحمر” أن : “الاقتصاد العراقي في فترة البعث لم يكن نموذجًا اشتراكيًا بالمعنى العلمي الدقيق للاشتراكية، بل كان النظام السياسي يدعي ذلك. كان النموذج السائد في هذه الحقبة هو نموذج رأسمالية الدولة والتي تتضمن تطبيق سياسات اشتراكية، بمعنى أنها توظف الاشتراكية لبسط هيمنة الدولة وبالتالي هيمنة النظام السياسي ذاته” 

وعلى الرغم من كون هذه الحالة هي النموذج المناسب للتصورات البعثية لتنظيم الدولة والسلطة، ورغم كونها أقرب لنموذج “رأسمالية الدولة” السائد حينها في اقتصاديات المعسكر الاشتراكي الشرقي، غير أن التطبيقات الاشتراكية بانت بشكل واضح إذ يمكن القول أن فترة بداية السبعينات شهدت الانطلاقة الأولى نحو إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي وبناه ومؤسساته وهياكله القانونية نحو الاشتراكية، وهو النموذج الذي بقي مستمرًا إلى 2003 ، حيث مثلت العلاقة بين ريعية الاقتصاد ونموذجه الاشتراكي، القاعدة الصلبة التي يقف عليها النظام السياسي حينها، والتي ساهمت في هيمنته عبر استيعاب فعاليات الحراك الطبقي وتحييد دورها في تشكيل هياكل السلطة ومن ثم إفقاد هذه الطبقات وظائفها التاريخية المفترضة إثر فقدان الطبقات لاستقلاليتها في الإنتاج وانقلاب العلاقات بين المجتمع والدولة حيث تم ربط الفرد بالدولة عموديًا، وهذه علاقة لا يمكن معها الحديث عن أي دور للفرد والطبقة في الحياة الاقتصادية والسياسية. 

فوضى ما بعد 2003 

في عراق ما بعد 2003، وبعد أن عمدت الولايات المتحدة إلى هدم مؤسسات الدولة، فضلًا عن النظام الحاكم، وتفتيت هياكلها القانونية واستبدالها بهياكل تمثل فلسفة وتصورات تتماشى مع المشروع الأمريكي الذي تعثر لاحقًا، إضافة إلى تصفير تراكمية هذه المؤسسات، صار مصير الاقتصاد العراقي والدولة عمومًا بين أيادي الأحزاب الإسلامية، نتيجة لذلك، ما خلق حالة فوضى كبيرة على كافة المستويات، والإقتصادية تحديدًا، إثر تظافر حالة غياب المشروع السياسي والاقتصادي لأحزاب تفقد، هي، في الأصل، لأدنى تصورات المشروع الحقيقي، مع انعكاسات تصفير تراكمية الدولة. علاوة على تأثيرات التشوهات الموروثة من الماضي التي رافقت الدولة العراقية منذ قيامها عام 1921. 

يقول الأكاديمي الاقتصادي حيدر بريسم في حديثه لـ”الخط الأحمر” أن : ” هوية الاقتصاد العراقي بعد 2003 هي أقرب للخليط غير المتجانس بين تطبيقات اقتصادية سيئة لنظامين يمثلان أسوأ الأنظمة، حيث أن هياكل الدولة الاشتراكية الموروثة من النظام السابق تتجلى بصورة الشركات العامة الخاسرة حاليًا، و بين نموذج الرأسمالية الكلاسيكية من خلال القطاع الخاص (القطاع الطفيلي) كونه بالاصل مملوك أو مدار من قبل أشخاص وكيانات تعمل وتنفذ في القطاع العام ، وبهذا فإن الاقتصاد العراقي يحمل صيغة ممزوجة وهي بطبيعة الحال أقل من أن توصف بنموذج كونه يأخذ من خلال السياسات الاقتصادية و هياكل الإدارة العامة بقايا النظام الاشتراكي سوء من ناحية الإطار القانوني و التشريعي و من ناحية السياسات الاقتصادية ، وأسلوب الإدارة العامة ، كل هذا الدلالات تشير إلى الإشتراكية بشكلها الجامد من خلال الملكية العامة للإنتاج و التسيير داخل القطاع العام ، في حين أن الصبغة الرأسمالية في هذه الصيغة تتجلى بشكل القاسي من خلال قطاع “طفيلي” الخاص يسعى إلى الربح السريع و المرابحة من خلال إستخدامه نفوذه وملكيته لكيانات أو شخصيات تعمل أساساً في القطاع العام” 

من جهته يؤكد الاستشاري في مجال التنمية والاستثمار، حمزة الجواهري، على وجود هذا النموذج غير المتجانس بين الرأسمالية الكلاسيكية وبين البقايا الموروثة من النموذج الاشتراكي، أن : “الدستور العراقي يتحدث بوضوح عن تكفل الدولة بإصلاح الاقتصاد العراقي وفق أسس حديثة ويشرع ذلك بقانون، وبقيت الحالة بدون أي تشريعات تعالج هذه المسألة لغاية العام 2018 حين أقرت الخطة الخمسية والتي تضمنت سعي الدولة إلى تحقيق وتنفيذ سياسات نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي” 

وتشير المادتان 25 و 26 من الدستور العراقي الدائم لعام 2005 بصراحة إلى مسؤولية الدولة في إصلاح الاقتصاد، حيث تنص المادة 25 على : ” تكفل الدولة اصلاح الاقتصاد العراقي وفق اسس اقتصادية حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده وتنويع مصادره وتشجيع القطاع الخاص وتنميته”. بينما تنص المادة 26 على : “تكفل الدولة تشجيع الاستثمارات في القطاعات المختلفة وينظم ذلك بقانون”. 

أما عن نموذج “السوق الاجتماعي” المقترح تنفيذه خلال الخطة الخمسية 2018-2022، التي لم ترَ النور، فهو نموذج اقتصادي  يتبنى السوق الحر لكنه يرفض الشكل الرأسمالي المطلق كما يرفض أيضا الاشتراكية الثورية حيث يجمع القبول بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والشركات الخاصة مع ضوابط حكومية تحاول تحقيق منافسة عادلة، تقليل التضخم، خفض معدلات البطالة، وضع معايير لظروف العمل، وتوفير الخدمات الاجتماعية.

وبين النموذج الاشتراكي الموروث وبين السياسات الرأسمالية التي يحاول النظام السياسي تطبيقها، بقيت هوية الاقتصاد العراقي غير واضحة المعالم. يواصل الخبير الاقتصادي حمزة الجواهري حديثه موضحًا واقع هوية وشكل الاقتصاد العراقي اليوم : “هو أقرب إلى العشوائية وعدم الوضوح ولا وجود لشيء منظم بقانون نافذ وحتى ما هو مشرع فهو غير مطبق على أرض الواقع، فضلًا عن غياب الوعي والثقافة الاقتصادية التي تكفل إدارة وتوجيه الاقتصاد محو أهدافه ما يجعل الحالة السائدة هي سوء التخطيط وغياب التعريف والتشخيص الواضح لواقع وحاجات الاقتصاد العراقي ليحقق أهدافه” 

بدوره يؤشر الأكاديمي الاقتصادي حيدر بريسم، لـ”الخط الأحمر” ، على أبرز سلبيات الفوضى التي يعيشها الاقتصاد العراقي : ” أن اصعب ما يمر به الفكر و السياسات الاقتصادية هو اللايقين، ففي أزمة سعر الصرف التي هي نتاج عوامل تتعلق بسعر النفط العالمي، نلاحظ أن الحلول الموضوعة و الإجراءات من سنة ٢٠٢١-٢٠٢٣ شهدت السياسية النقدية و المالية تخبط كبير في رفع وخفض سعر الصرف بطريقة تدل على توليد المزيد من اللايقين داخل بنية الاستثمار والتنمية الاقتصادية” 

ويضيف بريسم موضحًا :  “الاقتصاد العراقي بشكل مختصر “اقتصاد أزمات”  اي متابع أو مهتم بالشأن الاقتصادي ومآلته ، لن يتعب نفسه كثيرا اذا انطلق من مبدأ أن هناك أزمة ما في الطريق أو أن هناك شيء ما سوف ينكسر في الاقتصاد العراقي ، والنتيجة أعتبر العراق من البلدان الهشة إقتصاديا بحسب تقرير undp في مسألة التعافي الاقتصادي” 

ومن المتوقع ان ينكَمش الانتاج بنسبة 5 في المئة في العام 2023 في ضوء قرار منظمة أوبيك+ بخفض حجم الإنتاج النفطي، وانقطاع خط أنابيب كركوك – جيهان النفطي عن العمل. كما كان لتقلُّباتُ سوق أسعار صرف العملات الأجنبية عَقِبَ تطبيق البنك المركزي العراقي لضوابط أكثر صرامة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب على مبيعات العملة الأجنبية أثراً سلبياً على القطاعات غير النفطية القائمة على الاستيراد. حيث تشير التقديرات إلى حدوث انكماش في إجمالي الناتج المحلي الحقيقي غير النفطي بنسبة 9 في المئة (على أساس سنوي مقارَن) خلال الربع الأخير من العام 2022، مما ألغى ما حقّقه من نمو خلال الثلاثة أرباع الأولي من العام، الأمر الذي سيزيد من الاختلالات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد العراقي في المجمل، بحسب تقرير أصدره البنك الدولي أواخر شهر آيار/مايو المنصرم. 

ما واقعية المعالجات المقترحة؟ 

وفي ظل هذا الخليط الاقتصادي الفوضوي وغير المتجانس، يطرح خبراء مجموعة معالجات تسعى لوضع الاقتصاد ضمن سياقات إصلاحية نحو تحديد استراتيجياته وأهدافه، لكن معظم هذه المعالجات المقترحة تصطدم عمومًا بواقع سياسي صلب وعصي على استيعاب المحاولات الإصلاحية، حيث أن طبيعة النظام السياسي القائم على تعدد مراكز القوى، مضافًا إلى طبيعة القوى السياسية المهيمنة، علاوة على حقيقة هشاشة مؤسسات الدولة وسهولة انزلاقها نحو ولاءات وعلاقات زبائنية مع زعامات النظام، الحالة التي خلقت ما بات يسمى بـ”الاقطاعيات الاقتصادية” التابعة لمراكز القوى المهيمنة والمستفيدة من تأثيرها على مؤسسات الدولة التي تستثمر حالة ملكية الدولة، ومزاوجة هذه الحالة مع طبيعة التشريعات ذات النمط الرأسمالي، والتي تصب في آخر المطاف في عملية استدامة وجود هذه القوى السياسية وزيادة هيمنتها سياسيًا واقتصاديًا. 

وانطلاقًا من هذا الواقع، يقترح الخبير الاقتصادي حمزة الجواهري الآتي : “يحتاج الاقتصاد العراقي إلى فريق اقتصادي غير مسيس وعابر للحكومات لكي يحظى باستقرار في التخطيط بعيدًا عن حالة تغيّر السياسات الحكومية بعد تغيير الفريق الحكومي، والهدف هو إرساء الاستراتيجيات والسياسات المطلوبة لكل قطاع من قطاعات الاقتصاد فضلًا عن الخطط التنفيذية التفصيلية، على أن يحظى هذا الفريق بغطاء تشريعي يحول دون تعطيله أو حله”. 

بينما يسلط الأكاديمي حيدر بريسم الضوء على عائق آخر يحول دون تحقيق عملية إصلاح واسعة تستهدف شكل وطبيعة وهوية الاقتصاد العراقي، يقول بريسم : يفتقر الاقتصاد العراقي البيانات الدقيقة عن حجم القوى العاملة في الاقتصاد في قطاعه العام و الخاص و حجم الاستثمار و الاستهلاك والإنتاج ، وبالتالي لا يملك المشرع المعرفة الكافية بحجم الطلب وقوى الإنتاج ، بالتأكيد سوف تكون التشريعات تفتقر إلى الدقة و تشكل زوبعة من القوانين والتشريعات تنتج المزيد من الفوضى” 

وفي خضم كل هذه المعوقات والمقترحات التي لا تجد طريقها إلى النور، تواصل القوى السياسية الحاكمة توظيف فوضوية الاقتصاد العراقي وغياب هويته في علاقة طفيلية تعتاش على مزيد من الخراب الاقتصادي، حيث تستمد هذه القوى ديمومتها ووجودها من ضعف مؤسسات الدولة، وغياب التخطيط وإنفاذ التشريعات الخاصة بذلك، لكي تمرر أجنداتها الخاصة بالسيطرة على عمليات الانتاج وتوزيع الثورة وتوظيف الريع النفطي لشراء الولاءات وتعزيز العلاقات الزبائنية واحتواء وتحييد الفعاليات الاجتماعية وإفقادها أدوارها ووظائفها التاريخية، 

إلّا أن كل هذه السياسات لا تلغي حقيقة أن المضي بهذه السياسات سيقود إلى انفجار الاحتقان الشعبي المتصاعد بسبب تردي الاوضاع الاقتصادية والسياسية، ذلك أن معظم السياسات الاقتصادية لا تقدم سوى مزيد من الأزمات وزراعة المزيد من عوامل التدمير الذاتي للأوضاع. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ستقود سياسات التوظيف الواسعة إلى زيادة معدلات التضخم بشكل كبير، والذي سيقود في آخر المطاف إلى ارتفاع مهول في أسعار السوق، الأمر الذي سيقود في محصلته إلى زيادة النقمة الشعبية. هذه لمحة عن واحدة من السياسات التي تنتهجها الحكومة الحالية، وعلى سياقها تجري باقي سياساتها في الترقيع وتأجيل الانهيار لا الحيلولة دون حدوثه. 

المصادر: 

– تاريخ العراق الاقتصاد| د. كمال علاوي 

2- “التطورات الاقتصادية في العراق خلال فترة الانتداب البريطاني” | ورقة بحثية صادرة عن جامعة بابل كلية التربية

3- السوق الاجتماعي | الموسوعة الحرة “ويكيبيديا” 

4- تقرير البنك الدولي عن حالة الاقتصاد العراقي 2022-2023