’’هناك ما يقدر بـ 2.5 مليون إلى 3 ملايين تركماني في العراق، ما يجعلهم ثالث أكبر مكوّن اثني بعد العرب والكورد. وهم يتوزعون بالتساوي بين السنّة والشيعة ويقيمون بشكل رئيسي في شمال البلاد، وتعتبر تلعفر أبرز مناطق تجمع التركمان. ويتأثر معظم أفراد المجتمع التركماني بالعادات والتراث واللغة والتقاليد الخاصة بالشعوب التركية الأخرى’’

“لم يكُن إلا قطع لحمٍ صغيرةٍ عندما أخرجوه من بين قدميّ، ومتلطخةٌ بدماء شفرة طبيبة تعلّمت الطبابة حديثاً”، تقول ذلك الناجية التركمانية اسراء (اسم مستعار) وهي تتنفس كأنها مطاردة، في إشارةٍ منها إلى لحظات مازالت باقية في ذاكرتها.

كانت اسراء في طريقها لإجراء فحوصات طبية على إثر تعرضّها لآلام حادّة في إحدى كليتها برفقة والديها إلا أنّه في يومٍ أسود من أيام شهر حزيران من عام 2014 وقعت بإحدى نقاط تفتيش تابعة لتنظيم داعش الإرهابي، في قرية بشير جنوبي محافظة كركوك شمال بغداد، ليتم عزلها واختطافها بعد ذلك من قبل أحد أمراء داعش واقتيادها إلى جهةٍ مجهولةٍ بمعزلٍ عن والديها.

اغتصاب عنيف

’’اسراء تتذكر كيف اجهضت طفلها الذي لم يتجاوز الخمسة اشهر في بطنها، بسبب فقدانها للسوائل، لكن القدر كتب لها حياة جديدة، بعد مقتل مغتصبها وتحريرها من قبل القوات العراقية’’

بعد أيّام من اختطافها، تعرّضت “اسراء” إلى اغتصابٍ عنيف ولأكثر من مرّة من الأمير الداعشي، لم تبقى وقتذاك إلا أشهرٌ قليلة لتدخل ربيعها الـ15، لكنها تمنّت أن تبقى في خريف الـ14 ولا تدخل الـ15 بهذه المأساة.

“تمّ نقلي بعد الاختطاف من خلال ظهر عربة بعينين مشدودتين، ويدين مُكبّلتين، “تستذكر “اسراء” أولى لحظات اختطافها، لكنّ الذكرى الأكثر دمويّة في ذاكرتها تتعلق بحبلها من الأمير الداعشي واجهاضها لعدم تناولها الطعام الجيّد بالإضافة إلى فقدانها السوائل “رأيت الطبيبة كيف تخرجّ ابني متقطعاً من بين يديّ، ولم يمضى على حياته في بطني سوى خمسة أشهر…”، تُقطع الحديث وبعد ثوانٍ يُغمى عليها.

كتب القدر للناجية التركمانية حياةً جديدة بعد أن وصلت القوات العراقية إلى قضاء الحويجة في منتصف شهر تشرين الأوّل – أكتوبر من عام 2017 واستطاعت أن تحرّرها من داخل أحد المساكن بعد مقتل مُغتصبها الأمير الداعشي برصاص الجيش العراقي “لم أعرف حتى ما حلّ بوالديّ، هل مازالا على قيد الحياة، أم قُتلوا مع العشرات كما كنتُ أسمع ذلك من عناصر التنظيم يومياً أنهم قتلوا مدنيين”.

رغم مرور أربع سنواتٍ على تحرير “اسراء” إلا أنّها مازالت تفتقر مثل الكثيرات مثلها إلى الدعم والعلاج النفسي، يُضاف إلى ذلك معاناتها مع نظرة المجتمع السلبية تجاهها ومن مثلها “ما ذنبي أن ينظر إليّ المجتمع والأقرباء بنظرة احتقار”، بعينين دامعتين تضيف :”هل كانت نظرة المجتمع ذاتها لو كان الحال وقع مع رجل؟”.

الموت ارحم 

’’النظرة السلبية للمرأة في المجتمع التركماني، جعلت الناجيات التركمانيّات يخشون من الحديث عن هذا الملف’’

ويرى ناشطون ومتابعون للشأن التركماني أن الناجيات يعشن في أوضاعٍ نفسية واقتصادية صعبة للغاية بعد تحريرهن من التنظيم الإرهابي، يضاف إلى ذلك افتقارهن للدعم الحكومي وتهميشهم محلياً ودولياً.

وخطف داعش نحو 460 امرأة تركمانية منذ صيف عام 2014، وزاد بذلك من النظرة السلبية للمرأة من المجتمع التركماني، وبات الحديث عن هذا الملف معيب ومخجل للغاية، يقول ذلك الصحفي التركماني “جعفر التلعفري” الذي دائماً يتعرّض لمضايقات وانتقادات لعمله الدائم في الملف المتعلق بالناجيات التركمانيّات.

“كان الموت أرحم بالنسبة له من أن تعود إليه ابنته محرّرة وهي مغتصبة من داعش”، يتحدث محمد شوكت كوثر لـ”الخط الاحمر” ما سمعه من والد احدى الناجيات التركمانيات، ولا يخفي في ذات الوقت وهو مدير شبكة الرحمة للمفقودين والمغيبين قسراً وجود صعوبات كثيرة تواجه الناجيات التركمانيات بعد تحريرهن، ويعزو السبب في ذلك إلى النبذ الاجتماعي “ينظر إليهن من ذويهن وأقربائهن بنظرة عار، على خلاف ما حصل مع الناجيات الإيزيديات، اللواتي حصلن على تعاطف مجتمعي من ذويهن”.

ويُعرف عن المجتمع التركماني أنه مغلق ويتغلّب عليه الطابع العشائري، وهذا ما يزيد من معاناة التركمانيات بعد تحريرهن من داعش.

تقبل متأخر 

“ابتسام الحيو” وهي باحثة نفسية وتدير منظمة حوار الثقافات للتنمية والاغاثة تؤكد لـ”الخط الاحمر” ما قاله “كوثر”، وتشير إلى أن “الناجين والناجيات التركمان يعانون من أوضاع معيشية صعبة، وأغلبهم بات يعيش مع أقاربه، لأن عوائل الكثيرين منهم ما زالت مختطفة حتى الآن”.

“الحيو” لفتت إلى أن المجتمع التركماني بدأ متأخراً بتقبّل الأمر، والترحيب بتحرير بناته المختطفات، إلا أن هذا وحده لا يكفي، فهن بحاجة إلى دعم نفسي ومادي وقانوني، خاصة مع فقدان بعضهن للوثائق والأوراق الثبوتية.

وترى “الحيو” أنه حالياً اخذ بعض النواب الاهتمام “بالناجيات” بعد ان كان البعض منهم من المعترضين لإثارة الموضوع، وخصصت بالذكر بعض النواب عن قضاء تلعفر وقد يكون السبب لأغراض انتخابية ليس لها علاقة بالإنسانية حسب قولها.

وذهب “التلعفري” وهو اعلامي تركماني، الى انه حين أصبح الأمر واقعاً وعادت 24 مختطفة تركمانية من تلعفر، وتحررن من سبي داعش، رحبّ المجتمع بهن وسارع البعض من أولئك المعترضون سابقاً على تقديم العطف والعون المادي والمعنوي لهن، وبات رجال الدين وشيوخ العشائر والنواب التركمان والوجهاء بإثارة الملف بعد سكوت مستغرب طوال السنوات 2014 إلى 2019.

مخيم الهول 

“التلعفري” كشف عن وجود معلومات عن تواجد عدد من المختطفات التركمانيات في مخيم الهول بسوريا، داعياً الحكومة العراقية إلى إنشاء قاعدة بيانات للمختطفات والمختطفين التركمان لمعرفة مصيرهم، ويضيف “من الضروري تقصّي هذا الموضوع، والعمل على إعادة المختطفات والمختطفين”.

’’ نحو أربعمائة وخمسين امرأة وفتاة تم اختطافهم من تلعفر، وان اغلب الناجيات اليوم مازالت عوائلهن مجهولة المصير’’

يرى “كوثر” أنه من الواجب على الحكومة العراقية تكثيف الجهود للبحث عن المختطفات التركمانيات لأن هناك عدد آخر غير معروف منهن”، كما يؤكد على “ضرورة تقديم كافة الدعم النفسي والقانوني للناجيات منهن، وإدخالهن في برامج إعادة اندماج داخل المجتمع في مناطقهن، خاصة في تلعفر وكركوك”.

ويوضح “التلعفري” ان أغلب الناجيات اليوم مازالت عوائلهن مختطفة ومصيرها مجهول، ويعشن لدى أقارب من الدرجة الثانية أو حتى لدى غير أقاربهن، فيما تزوج ثلاث منهن بعد تحريرهن ويعشن مع أزواجهن فيما أباءهن وأمهاتهن وإخوانهن مختطفين، فمن مجموع الناجيات هناك اثنتان فقط يعشن مع أباءهن”.

واستدرك، نعم المجتمع التركماني تقبل الناجيات، ولكنه ما زال غير متأكد من أن اثارة ملفهن جائز اجتماعياً أو لا، فما زال هناك تردد وما زال أفراد الذين تعيش الناجيات لديهم يجدون حرجاً في اللقاء بهن أو حتى الاتصال الهاتفي، ويفضلون تجاهل أمرهن، كما انه إلى اللحظة لم نسجل أي حالة رفض بل لم نسمع ولم نلمس رفضاً مطلقاً واتفقت “الحيو” معه في هذه النقطة.

الخوف من الحرق 

من جهته يؤكد عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق علي البياتي ، أن “أكثر من 1200 شخص تركماني، اغلبهم من الطائفة الشيعية، تم اختطافهم من تلعفر، منهم نحو أربعمائة وخمسين امرأة وفتاة، وهناك عدد غير معروف من المختطفين من مناطق أخرى”.

وينوّه “البياتي” في حديثه إلى أن “بعض التركمانيات كنّ يخفين طائفتهن وقوميتهن، ويزعمن أنهن أيزيديات، حتّى لا يتعرّضن للحرق أو القتل، على يد أطراف متعددة، لديها مشكلات مع المكوّن التركماني، وهذا الأمر جعل عدد المختطفات غير معروف لدينا بشكل دقيق”.

وأبدى “البياتي”، استغرابه حول ما تم نشره من نص قانون الناجيات، وقال إن “قانون الناجيات الايزيديات المنشور في جريدة “الوقائع العراقية” لا يشمل أي ناجية من أي مكون آخر غير ‎الايزيديات، فالمادة أولاً وثانياً حصرت الموضوع بتاريخ الاختطاف 3.8.2014 وهي بعد اختطاف الأخريات، وحددت الأطفال الايزيديين فقط، كما أن ذكر الناجين ( الذكور البالغين) من المكونات الاخرى لا قيمة له لأنهم قتلوا جميعا”.

VIAسامان داود