كشفت جائحة كورونا أن الاستبعاد الاجتماعي والتمييز الاقتصادي لا ينبغي الاستهانة بهما، وقد يتسببان في أضرار كبيرة على الأفراد مثل الفيروس نفسه. قصة أحمد حسن، الحلاق لكي عانى اقتصادياً واجتماعياً تكشف هذه الظاهرة.
في يوم عادي، كان أحمد يبدأ ساعات عمله بتنظيف واجهة صالون الحلاقة الخاص به، قبل أن يفعل الشيء نفسه بأدواته، وكذلك مقاعد صالة الانتظار. بعد ذلك، كان يقوم بترتيب جميع معداته بدقة، ولا ينسى أبداً تعقيم جميع أدواته بعد حلاقة كل زبون، يحدث كل هذا أثناء ارتداء الكمامة الطبية.

كان الحلاق البالغ من العمر (٤٨ عاماً) من منطقة الشطرة بمحافظة ذي قار (٣٦٠ كم جنوب بغداد) قد أولى اهتماماً كبيراً بهذه الإجراءات الوقائية منذ تفشي جائحة كورونا في العراق. بالعودة إلى (آذار/ مارس ٢٠٢٠)، شهدت البلاد أول إصابة مسجلة، تلتها بسرعة إجراءات حكومية لمنع انتشار الفيروس مثل إغلاق المؤسسات، باستثناء الأنشطة الحيوية للسكان مثل متاجر المواد الغذائية والمستشفيات.

لكن قبل الحبس ورغم كل الإجراءات الوقائية، أصيب أحمد حسن بالفيروس. غير مدرك لحالته، واصل قصّ شعر زبائنه لفترة من الوقت، وفي النهاية شعر بتوعك إلى حد ما أثناء عمله وذهب إلى مستشفى محلي. بعد إجراء الاختبار، تم تشخيص إصابته بفيروس كورونا. كما ساءت حالته بسبب مرض في كليتيه.

خلال حديثه لـ (الخط الأحمر)، يتذكر أحمد حسن دهشته من معرفة حالته، ويقول: “مع كل الإجراءات الصارمة التي اتبعتها، كانت مفاجأة تامة بالنسبة لي. عانيت من صعوبات في التنفس لدرجة أنني فقدت الوعي. وأعلم أنني ربما أنشر العدوى للآخرين قبل الشعور بالأعراض والحصول على تأكيد الإصابة بالعدوى”.

يبلغ عدد سكان محافظة ذي قار أكثر من (مليوني نسمة)، وسجّلت المحافظة حوالي (٢٣ ألف) حالة إصابة بفيروس كورونا، فيما تعافى ما يقرب من (٢٢ ألف) مصاب. وتأثرت المحافظة بشدة من الوباء، كما عانت من العديد من الآثار الجانبية المرتبطة بالوباء، بما في ذلك بعض الآثار الناجمة عن الإجراءات التي فرضتها الحكومة للحد من انتشار الفيروس. 

تم وضع أحمد حسن في قسم العناية المركزة بالمستشفى لعدة أيام مع تدهور وضعه الصحي، وبعد أيام طويلة من الصراع مع المرض الفيروس بدأ بالتحسن.  تحدث أحمد عن رحلته العلاجية قائلًا: “على الرغم من أن وضعي الصحي كان لا يزال سيئاً؛ إلا أن المستشفى أخلت مسؤوليتها عني، لأخضع للحجر الصحي في المنزل”.

استمرت محنة أحمد لعدة أيام، قبل أن يفكر في استئناف حياته الطبيعية، وأضاف: “استغرق الأمر ما يقرب من شهر قبل أن أذهب إلى صالون الحلاقة الخاص بي مرة أخرى، لكن الوضع تغير. كل شخص اتصلت به، بما في ذلك العملاء، كان يخاف من إصابتي”.  وتابع القول: “لقد حملت الفيروس ومارست عملي بالقرب من زبائني لعدة أيام، ويبدو أنني أصبت بالفعل بعضاً منهم. علاوة على ذلك، كان الناس يتجنبون بشكل عام صالونات الحلاقة، لذلك أصبحت عاطلاً عن العمل تقريباً”، وعلى الرغم من شفاء أحمد بشكل كامل؛ إلا أن زبائنه المعتادين أخذوا وقتاً طويلاً قبل أن يترّددوا على صالونه مجدّداً.

بعد ثلاثة أشهر من شفائه، كان أقارب أحمد ما زالوا يتجنبون الاقتراب منه، وبعد محنته عانى الكثير من خيبة الأمل والمعاناة النفسية، ولم يستطع صالون الحلاقة الخاص به، أن يوفّر له حتى نصف ما اعتاد الحصول عليه من قبل؛ لأن العديد من زبائنه الدائمين تجنبوا دخول صالونه.

الضعف الاقتصادي

تمثل حكاية أحمد مثالاً عن العزلة التي يواجهها العديد من ضحايا كورونا خلال الوباء في العراق. غالباً ما تكون العزلة الاجتماعية مرتبطة مع مسببات للاستبعاد الاقتصادي. إضافة إلى ذلك، كان للإجراءات الحكومية للحد من الوباء تأثير خطير على معيشة آلاف العراقيين، وخاصة أصحاب الأعمال اليومية وعمّال المتاجر الصغيرة.  أثناء الإغلاق، يضطر العديد من العمال إلى انتهاك حظر التجول؛ من أجل كسب لقمة العيش، مما يعرضهم لغرامات مالية بالإضافة إلى تعريض صحتهم للخطر لتجنب المجاعة. وفي عموم العراق، يعتمد العديد من العمال من ذوي الدخل المنخفض على فرص العمل اليومية؛ من أجل البقاء. بالنسبة لهم، فالبقاء في المنزل ليس خياراً، خاصة وأن الحكومة فشلت في تقديم أي دعم للعاطلين عن العمل.

يزداد ضعف العمال المتعافين من كورونا أيضًا بسبب التمييز الذي يتعرضون له في العمل. الشاب علي، عامل من محافظة ذي قار، شارك تجربته المريرة مع (الخط الأحمر) قائلاً: “بعد (17 يوماً) من التعافي، أخبرت صاحب العمل أنني قادر على العودة إلى العمل، لكنه اعتذر، قائلاً إنه لا يستطيع السماح لي بالعودة؛ لأن زملائي في العمل كانوا يخشون أن أنشر المرض بينهم أو حتى أن أجلب سمعة سلبية للشركة. أجبته أن نتيجة اختباري الأخيرة كانت سلبية، لكن هذا لم يكن كافياً لتغيير رأيه”.

وأوضح هشام العبادي، رئيس نقابة العمال في محافظة ذي قار، أن أكثر من (٨٠٪) من العمال في المحافظة عانوا أثناء الإغلاق. تم طرد الكثير منهم من وظائفهم؛ بسبب حظر التجول أو كورونا. مما شكّل تحدياً كبيراً لهم.  وقال العبادي لـ (الخط الأحمر): إن “العديد من المصانع الخاصة والشركات قد أُغلقت، مما ترك أعداداً كبيرة من العمال عاطلين عن العمل. تم تحذير وزير العمل مرات عديدة بشأن هذه القضايا، وقد تعهدت نقابتنا بالتدخل الحكومي لتخفيف معاناة العمال في هذه الأوقات العصيبة، والوزير استجاب بنفسه”. وطالب الوزير النقابة بتقديم قائمة بأسماء العمال الذين خرجوا من العمل بسبب تفشي فيروس كورونا، على أن يتم إدراجهم في برنامج الضمان الاجتماعي للعاطلين عن العمل. وهكذا تم وضع قائمة بأكثر من (١٠ آلاف اسم) وتقديمها بمساعدة مجلس الضمان الاجتماعي وبعض النواب. ومع ذلك، حتى يومنا هذا، لم يتم تعويضهم عن فقدان وظائفهم.

ويضيف العبادي أنه “حتى لو تم تنفيذها، فلا يمكن إتخاذ أي من هذه الإجراءات كحلٍّ موثوق ومستدام لجميع المتأثرين بأزمة فيروس كورونا. اذ تمر البلاد بانهيار اقتصادي، كما أن تأخر إطلاق الميزانية الحكومية، يجعل من الصعب على الحكومة حتى دفع رواتب الموظفين، ناهيك عن الدفع للعاطلين عن العمل”.

الغرض من وجود نقابة العمال، هو حل العديد من التوترات المتزايدة بين أصحاب العمل والعمال. غالباً ما يتم تسوية المشكلات بسرعة، ولكن ينتهي بها الأمر أحياناً في محكمة العمل. منذ أزمة كورونا، كان هناك ارتفاع في القضايا المعروضة على المحاكم من قبل العمال ضد أرباب عملهم في كل من القطاعين العام والخاص، وانتهى بهم الأمر بكسب المزيد من القضايا أكثر من ذي قبل”.

الخبير القانوني علي حسين جابر، أخبر (الخط الأحمر) كيف يقّدم الدستور العراقي بعض الضمانات الاجتماعية للعمال والعاطلين عن العمل على الرغم من عدم تنفيذها بشكل صحيح، قائلاً: “على خطى الدستور العراقي، سارع البلد إلى إصدار قانون العمل رقم (٣٧ لسنة ٢٠١٥)، والذي حقّق مكاسب كبيرة للطبقة العاملة، حيث جاء القانون بأكثر من (١٧٠ مادة قانونية) حددت طبيعة العلاقة العقدية بين العامل ورب العمل والالتزامات والحقوق المتبادلة بين طرفي العقد، بل وذهب إلى أبعد من من تفسير العقد بموجب القانون المدني حيث أقر بصحة العقد الشفوي بين طرفيه”. وعلى الرغم من المكاسب الحقوقية التي حصل عليها العامل بموجب القانون الجديد، كما يتحدث جابر إلا أن القانون “لا زال يحتاج لبعض التدخلات التشريعية لإنضاج بعض مواده؛ من أجل تحقيق الحماية القانونية الكاملة من الاستغلال أو وقوع الجرم عليه”.

وأضاف السيد جابر، أن “الوباء أثّر على جميع القطاعات، مما تسبب في بعض الاضطراب في العلاقة التعاقدية بين العمال وأصحاب عملهم. وعلى الرغم من أن هذا كان متوقعاً وحدث في جميع أنحاء العالم، إلا أنه يجب على العمال ألا يتخلوا عن حقهم في الحماية من حيث الأجور والحصانة ضد التسريح”.  

ومع ذلك كما يوضح جابر “إذا انخرط العمال في عملية قضائية للحصول على حقوقهم، فلن يكونوا متساوين مع أصحاب العمل على بعض المستويات. من الصعب بالفعل على العمال تحمّل نفقات عدة جلسات استماع في المحاكم، خاصة عندما يعيشون في مناطق وقرى نائية، ناهيك عن تعيين محامين للدفاع عن حقوقهم”.

ويؤكد جابر هذا الواقع، موضحاً أن “القانون لم يمنح حماية كافية للعاملين، خاصة العاملين في القطاع الخاص، في حالة تعرضهم لسوء المعاملة في العمل”.  وبيّن الخبير أن العراق “وقّع على اتفاقية الحرية النقابية وحماية حق التنظيم رقم (٨٧ لسنة ١٩٤٨)، والتي تطالب بتعديل التشريعات الخاصة بالقوانين الجزائية والمدنية بما يتوافق مع التزام العراق الدولي للارتقاء بالحقوق القانونية والدستورية للعراقيين والطبقة خصوصاً، وتسهيل إجراءات التقاضي والاستئناف الإدارية، لكن التعديلات المطلوبة لا تزال منتظرة حتى الآن”.

القضايا الصحية بعد كورونا

بالإضافة إلى الضعف الاقتصادي، فإن الآثار النفسية للأزمة كانت كارثية على للعراقيين.  وكشف الدكتور إبراهيم الصائغ، رئيس دائرة الصحة النفسية بمحافظة ذي قار عن “رصد حالات انعزال اجتماعي ومعاناة نفسية بين المتعافين الذين قدموا الى عيادته والعدد ليس منخفضاً”.  وقال الصائغ لـ (الخط الأحمر): “يمكن تقسيم المتعافين من الإصابة من كورونا لفئتين، فئة كانت تعاني من مرض نفسي أو قلق وتعرضت للإصابة بالفيروس، حيث عانت لحين الشفاء من المرض؛ بسبب الخوف المفرط، وفئة أخرى ليس لديها أي أعراض، وحينما أصيبت وتعافت، شكّل لديها أمراض القلق والخوف المزمن والوسواس القهري”.

وأضاف الصائغ أن “أعراض ما بعد الشفاء يمكن للمختصين متابعتها، ومع ذلك، فهي نتائج الذهان المعمم الذي أحدثته وسائل الإعلام حول الفيروس، والذي تبين أنه ليس الوحش الذي لا يقهر كما توقعه الجميع”.  على الرغم من قوته المعتدلة، فإن لوباء كورونا آثاراً اجتماعية وثقافية عميقة، إذ إنه يخلق عزلة اجتماعية حتى داخل الأسرة الواحدة أحياناً، خاصةً عند إصابة أحد أفرادها.  وأوضح أستاذ علم الاجتماع عدي الشبيب بالتفصيل لـ (الخط الأحمر) قائلاً: إن “للوباء انعكاسات على العمل المنزلي والأنشطة الاقتصادية والتعليمية والفكرية”، مضيفاً بأن “الذهان الناتج عن الفيروس أدى إلى تفاقم الإقصاء والتمييز، حيث أُجبر العراقيون على عزل أنفسهم؛ خوفاً من الفيروس وهذا الخوف هو الذي عزل المرضى، حتى بعد تعافيهم، من الأوساط الاجتماعية”.

تأثير آخر للحبس أو العزل، هو الارتفاع المفاجئ في حالات العنف المنزلي، حيث أوضح مصدر أمني من محافظة ذي قار لـ (لخط الأحمر)، أن إدارة الشرطة الاجتماعية في منطقته سجلت (١٠٥٤ حالة) عنف أسري، ودعاوى قضائية محلية أكثر من المعتاد بين (آيار/ مايو وتشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠٢٠)، لكن العدد الحقيقي لهذه الحوادث ربما يزيد عن (ألفين). 

في حين أن هناك العديد من الأسباب التي تدفع الأشخاص إلى رفع هذه الدعاوى القضائية، إلا أن الأشخاص الذين يرفعونها لا يقولون عادةً أن أصل مشكلاتهم هو تفشي فيروس كورونا. ومع ذلك، ترى وحدة المراقبة في قسم الشرطة وجود صلة مباشرة مع آثار الحبس ونقص الموارد داخل الأسرة.  وأضاف المصدر الأمني (الذي فضل عدم كشف اسمه) ​​أن “العديد من هذه المشاكل يتم حلها بالتراضي داخل دائرة الشرطة الاجتماعية قبل الوصول إلى المحكمة”.

ارتفاع معدلات الفقر

صرح وزير التخطيط خالد بتال النجم يوم (٢١ أيلول/ سبتمبر ٢٠٢٠)، أن معدلات الفقر في العراق ارتفعت لتصل إلى (٣٠٪)؛ بسبب تفشي فيروس كورونا، مشيراً إلى أن وزارته وضعت خطة لوقف هذه الزيادة. مضيفا أن “الاوضاع تفاقمت بسبب الانهيار الاقتصادي في العراق الناجم عن الوباء”.  وأوضح الوزير في بيانه أنه “في ظل هذه الظروف القاسية، وضعت الحكومة خططاً اجتماعية لمواجهة الأزمة الحالية والتخفيف من آثار الوباء على الاقتصاد والمجتمع”.

وعلى الرغم من كل الأموال والمشاريع التي خصصتها الحكومة الاتحادية العراقية لمحافظة ذي قار والأولوية الاستثنائية التي أعطيت لتحسين الوضع هناك من حيث الاقتصاد والرعاية الصحية والخدمات العامة، لا تزال المدينة مثقلة بمعدلات بطالة متصاعدة و تراكم حيث زعم تقدير غير رسمي من عام (٢٠١٨) أن هناك أكثر من (٢٥٠ ألف) خريج وعاطل عن العمل في المحافظة، مما يسلط الضوء على خطورة القضايا هناك.

VIAعلاء كولي