كانت الساعة تشير إلى الثانية فجراً عندما أقلتها تاكسي أمام عمارة سكنية في شارع السعدون وسط العاصمة بغداد، وكان مطرٌ نيسانيّ يهطل مصحوبا بالرعد، توقفت منى لحظة أمام باب المسكن، راوغت جُرذا أخافها قبل أن تختفي في عتمة البناية.

لساعات طويلة، تعمل منى (وهو اسم مستعار) في مقهى بالكرادة كنادلة تقدم المشروبات والأراكيل للزبائن، إذ يبدأ عملها من الساعة الرابعة عصرا حتى الثانية فجرا، ولا يبدو أنها سعيدة بعملها، لكن “السعادة لا توفر بدل إيجار الشقة”، كما تقول لـ”الخط الأحمر”.

تمسك منى هويتها التعريفية (البطاقة الموحّدة) وتخفي اسمها الحقيقي بأصبعها، مشيرة إلى أنها قبل يومين دخلت عامها الثلاثين، بحسب هويتها، وهي مازالت عازبة، فقطار الزواج في العراق يبتعد حين تبلغ الفتيات سن الثلاثين، “الزواج حلم تبخّر، خاصة لمن تعمل في مهنتي بمجتمعنا”، هكذا تنهي منى حديثها، وتغلق باب الأمل في أن تحظى بزوج يتكفّل بإعالتها مع والدتها.

وتبدو نظرة منى التشاؤمية حول الزواج منطقية، فالمجتمع العراقي ينظر للعاملات في المقاهي بأنهن غير جديرات ليكنّ زوجات، فالمتقدم على الزواج حتى لو كان يعرف بأن شرف العاملة لم يتلوث، فأنه ينأى عنها.

وفي بغداد، فأن عشرات المقاهي الحديثة بدأت تلجأ إلى توظيف الفتيات ممن يتمتعن بمظهر حسن لخدمة روادها في تقديم طلباتهم كالأركيلة والعصائر والمشروبات الغازية، فلم يعد غريباً خلال السنوات القليلة الماضية رؤية الشابات وهن يعملن في مقاهي العاصمة على غرار ما موجود في معظم دول العالم، وعلى الرغم من موقف المجتمع من الفتاة العاملة في المقاهي إلا أن أعدادهن تزداد بسبب الدخل الذي يجنينه من هذه المهنة، فوجود المرأة في هذه المهنة يعمل كـ”وسيلة جذب للزبائن”، كما يرى محمد البغدادي صاحب أحد المقاهي في العاصمة.

“في مقهانا تعمل ثلاث فتيات، يتناوبن على تسجيل الطلبات وتقديمها للزبائن”، يضيف البغدادي الذي يؤكد أن الجميع يعاملهن بلطف واحترام، سواء زملاؤهن من الرجال أو الزبائن، خاصة أن المرأة تحترم عملها وتجتهد أكثر من الرجل بحسب تجربته من هذا العمل.

الوضع الاقتصادي هو أكثر ما يجبر هؤلاء الفتيات على العمل كنادلات، فالرغبة في امتهان هذه المهنة قليلة جدا، وكذلك فقدان المعيل فأن أغلب من يمتهنّ العمل كمضيفات في المقاهي عزباوات أو مطلقات أو أرامل.

وبحسب دراسة ميدانية، منشورة بعنوان “عمل المرأة في الكوفي شوب والمقاهي الليلية..  شواهد جذب وابتزاز“، فإن العيّنة التي استهدفت 50 امرأة من العاملات بمقاهي بغداد في الكرخ والرصافة، أظهرت أن 46 بالمئة منهن كن غير متزوجات، و32 بالمئة مطلقات، و14 بالمئة أرامل، بينما فقط 8 بالمئة كن متزوجات.

وأوردت الدراسة التي أعدتها الباحثة وديان ياسين أن الأعمار بين 20 – 25 سنة شكلت أكثر من نصف العاملات، وأن أكثر من نصفهن يتكفلن بإعالة أسر تتكون من خمسة أشخاص، وأن أكثر من نصفهن أيضا فقدن الأب، طبقا للدراسة. 

ويعدّ توجه الفتيات للعمل في المقاهي، طبيعيا نظرا لعدم توفر فرص عمل أفضل، ونتيجة للبطالة الكبيرة بين الشباب، فالإقبال على هذه الأعمال، سواء من الفتيات أو الشباب بدأ يتوسّع. 

“عمل الفتيات في المقاهي ليس عيبا، لكن المجتمع العراقي قبليّ يرفض هذه المهنة للمرأة، بالتالي يعد هذا النوع من العمل غريباً” تقول الباحثة ابتسام الشمري لـ”الخط الأحمر”. 

ما هو أكثر خطرا، أن هناك مقاهي كانت بوابة لأعمال غير شرعية ترتبط بالبغاء والسمسرة تقوم باستغلال هذه الفتيات التي دفعتهن الحاجة والفقر إلى الانخراط في هذا النفق، ترجع الشمري أسباب توجه الفتيات لهذا النوع من العمل، إلى “سوء التربية، فلو كانت تربيتها جيدة لما ارتكبت مثل هذه الأخطاء”.

وقد تكون هناك أسباب أخرى كشفت عنها قصص عديدة في العراق، منها تعرض الفتاة للعنف الأسري أو التحرش الجنسي داخل منزلها سواء من والدها أو أخيها أو أي من أفراد عائلتها، ما يدفعها إلى الهرب من المنزل والعمل بهذه الأماكن التي توفر معظمها مأوى لهن، سارة كانت إحداهن. 

منذ عامين، وهي تعيش في مسكن من غرفة واحدة مجاور للمقهى الذي تعمل فيه، هربت سارة من منزلها القابع في قرية تقع بإحدى المحافظات الجنوبية بعد وفاة والدتها، إذ مورس معها جميع أنواع العنف الأسري من قبل والدها وزوجته الجديدة، حتى استطاعت الهرب.

“أعمل منذ عامين في المقهى، بأجر أقل من زميلاتي لأنه يوفر لي مأوى” تقول سارة.

وتعليقاً على ذلك، تقول الشمري “على الدولة أن تأخذ دورها، عبر إنشاء دور رعاية تسمى (شلتر)، من المفترض أن تلجأ لها الفتيات الهاربات لأي سبب، بدلا من أن يذهبن للعمل في أماكن تستغل أجسادهن، لكن للأسف لا نمتلك ثقافة هذه المراكز”.

وأضافت أن “هذه المراكز مع الأسف تفسر بأنها سيئة الصيت ولا تمت لعادات المجتمع بصلة، لدينا مركز في بغداد وآخر في أربيل، والأخير شهد مقتل فتاة من قبل ذويها بعد أن لجأت إليه”، مشددة على “ضرورة أن توفر الحكومة أعمالا للشباب إناثا وذكورا، فهم بحاجة لنشاطات مختلفة وعمل لشغل أوقاتهم حتى لا يتجهون لهذه المجالات”.

ومن الدلائل على رفض عمل الفتيات في المقاهي، هو القرار الذي صوت عليه مجلس محافظة واسط السابق عام 2017، الذي منع بموجبه عمل الفتيات في المقاهي بالمحافظة، لكونها “لا تحظى بقبول اجتماعي”، كما علل المجلس في حينها قراره.

ليس الزواج وحده من يفوت العاملات في المقاهي، فقد ثبت أن إحدى العاملات ممن واجهن الطلاق لم تحصل حضانة طفلها، إذ صادقت محكمة التمييز على قرار منح الزوج حضانة الطفل على حساب والدته التي كانت “تعمل في أحد المقاهي الليلية”، لذا فهي “غير أمينة على حضانة الطفل” بحسب قرار المحكمة.

ويبقى حكم القاضي بسحب حضانة طفل من أمه لكونها تعمل في مقهى، مسألة تقديرية ولا علاقة له بنوع العمل، فكما يرى الخبير القانوني عدنان الشريفي أن “هذا المثال ليس له حالة ثابتة، والأمر متروك لتقدير القاضي، لأن العمل حق مكفول بقانون العمل والقانون لا يفرق بين رجل وامرأة”.

ويجد الشريفي أن هذا النوع من العمل مرهون بطبيعته، فهو ليس جريمة يحاسب عليها القانون، فهناك أماكن ومقاه محترمة، أما إذا كان العمل يتضمن ممارسة نوع من أنواع البغاء أو استدراج الزبائن عبر جسد المرأة من خلالها ملابسها أو بعض الحركات، فهذا يدخل في باب الإخلال بالآداب العامة.

ووفقا للقانون فإن المرأة التي تقوم بأعمال منافية للآداب العامة تكون غير مؤتمنة على تربية الأطفال، ومن جانب آخر، أن المرأة التي تعمل لساعات طويلة وتترك طفلها بمفرده في المنزل، وخاصة إذا كان بسن الخامسة أو الثامنة من عمره، ستترك طفلها معرضا للخطر، بالتالي تكون غير أمنية على الطفل المحضون.

ويضرب الشريفي مثالا بفتاتين تعملان في مقهى واحد، وكلاهما مطلقة ولديها طفل، الأولى تترك طفلها مع والدتها التي تعيش معها وتعمل لساعات طويلة، والثانية تتركه بمفرده، “الأولى لن تقع في أي إشكال، أما الثانية تسحب منها حضانة الطفل، لكونها تعرض طفلها للخطر”.

وما زالت المرأة في العراق تعاني من ضغوط اجتماعية كبيرة، إذ أن نسبة كبيرة من النساء لا يملكن حق اختيار الزوج أو إكمال الدراسة أو العمل، بموجب الأعراف والتقاليد السائدة، ما يوقع كثير منهن في ظروف عائلية ونفسية صعبة للغاية تدفعهن أحيانا إلى الهرب بحثا عن حياة أفضل.

وتعد ما يسمى بـ”جرائم الشرف” من أبرز الجرائم التي تلاحق المرأة، حيث يتم قتلها من قبل ذويها في حال اكتشافهم أنها على علاقة برجل خارج إطار الزواج، ولا تتوفر إحصائيات رسمية حول “جرائم الشرف” في العراق، لكونها تشهد تلاعبا كبيرا قبل وصول القضايا إلى المحاكم المتخصصة، ويتم ذلك عبر تغيير سبب الوفاة في شهادات الوفيات داخل الطب العدلي، وغالبا ما يتم غلق الدعاوى في المراكز الأمنية قبل تحويلها إلى الجهات القضائية.

وبين فترة وأخرى، يثار الجدل حول بعض مواد قانون العقوبات العراقي لسنة 1969، ومن المؤاخذات على القانون، هو الأحكام المخففة لـ”جرائم الشرف” التي تصل عقوبتها بالحبس لأشهر عدة، ووفقا للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، فإنها أكدت سابقا أن الأحكام التشريعية في القانون الجنائي العراقي، تنص على عقوبات مخففة لما يسمى بـ”جرائم الشرف”، معتبرة أن تلك الأحكام ما تزال تمييزية ضد المرأة العراقية في الوقت الحالي، ويجب على العراق مراجعة تشريعاته المحلية لإلغاء أو تعديل الأحكام التي تسمح بالعنف ضد المرأة.