حتى هذه اللحظة ما زلت اتذكر بكاء امي المرير وانينها الذي لا ينقطع منذ ساعات الفجر الأولى وحتى موعد نومها، لقد فقدت أخي الاكبر بخطأ طبي، كان أخي يعمل باجرٍ يومي في البناء، سقط من مكان مرتفع فترك عمله عائدًا إلى المنزل، لكن ألم أصابه ما بارح ان عاد بقوة اكبر؛ فذهب إلى الصيدلية لشراء علاج يخفف الألم فكتب له الصيدلي حقنة لتخيف الألم المشتعل في جسده، من دون وصفة لطبيب! لقد اشترى موته هكذا يقول مهيمن الاخ الاكبر لزيدون.

   ويكمل لقد مات هناك على فراش أحد عيادات “المضمد الطبي” اتصلوا على والدي من هناك واخذ يصرخ متجهًا نحو الشارع لم ندرِ ما الأمر حتى التف حوله الناس وأخبرهم ان زيدون قد فارق الحياة!

ويضيف مهمين والدموع بدأت تزحف على اوداجه على الرغم من اننا قدمنا شكوى إلى المحكمة تفيد بمحاسبة الصيدلي والمضمد ألا إننا لم نحصل على نتيجة حتى الآن وسوف الامر واغلق وكأن شيئًا لم يكن! 

لم يكن زيدون هو الوحيد الذي فارق الحياة نتيجة الأخطاء الطبية والاستهتار بأرواح الناس فقد سبقته حالات كثيرة شهدها العراق وأصبحت ظاهرة بسبب تردي الواقع الصحي، ومن هنا أصبحت الأخطاء الطبية جزءًا من منظومة القتل التي تهدد أرواح العراقيين. فبحسب لجنة الصحة في البرلمان العراقي هناك أكثر من ثلاثة الاف خطأ طبي خلال السنوات العشر الماضية تسببت هذه الأخطاء بالكثير من الوفيات وحالات الإعاقة، ورغم اللجان التحقيقية التي تشكلت فأنها حكمت ببراءة الاطباء والصيادلة والممرضين اذ غالبًا ما يجيء في التحقيق ان سبب موت الضحايا هو السكتة القلبية! 

واقع صحي متهالك ومستشفيات لا تتوفر فيها الأدوية  

لا يبتعد النظام الصحي في العراق عن واقع النظام السياسي، إذ أنَّ كلاهما يتصفان بالهشاشة وعدم الاستقرار ما تسبب في عرقلة وصول السكان الى خدمات الرعاية الصحية العادلة، وبسبب هذا الوضع برزت عدة ظواهر من شأنها ان تشكل خطرًا مميتًا على حياة المواطن، نتيجة لعدم ثقته بالمستشفيات الحكومية المتهالكة والتي بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية إنها لا توفر ٥٠٪؜ من الادوية الرئيسية في دول العالم. 

ومن هذا الثغرة صارت الصيدليات الخارجية وعيادات الممرضين، هي من تأخذ الدور رغم خطورته اذ يكتب الدواء للمريض دون الرجوع إلى الطبيب المختص. 

في العراق وخصوصًا في المدن الفقيرة تنتشر عيادات الممرضين والصيدليات التي تقامر بأرواح الناس، لم نحصل على بينات تبين لنا عدد عيادات “المضمد الطبي” لكنها تقدر بالألاف، اما عدد الصيادلة في العراق فبحسب تصريح نقيب الصيادلة في العراق فان عددهم وصل إلى ٣٠ الف صيدلي بينما الحاجة الفعلية في العراق هي ١٦ الف صيدلي، ويبين الهيتي أنَّ الكثير من الصيدليات تقوم بتوظيف شباب بعدين عن الاختصاص ويكتبون العلاج للناس دون استشارة الطبيب وهذا يتأتى من انعدام الرقابة والاهتمام بالواقع الصحي بالإضافة الى انتشار الجامعات الاهلية التي تخرج الطلبة دون كفاءة واستحقاق.

سمسرة طبية ومستشفيات اهلية.. 

ومن سمات الواقع الصحي المتهالك ايضًا بات لدينا ما يعرف بـ”السمسرة الطبية” والتي تطون بطرقٌ عديدة كلها تصب في إرهاق المواطن وتحويله إلى رأس مال جوال وميدان تجارب، بعد التعاقد بين الطبيب والصيدلاني لغرض استنزاف أمواله. يقول الممرّض حيدر الهلالي في حديثه لـ”الخط الأحمر” إنّ “بعض الصيادلة يقومون بفتح مجمعات طبية، ويجلبون إليها الأطباء من دون دفعهم للإيجار أو أي مصاريف أخرى فكلها يتحملها صاحب الصيدلية، الذي ينتفع من تحويل المراجعين من قبل الأطباء إلى صيدليته وهو بدوره يرشدهم إلى الطبيب”.

اما عن تعاقد الأطباء مع شركات الأدوية فيقول الهلالي إن “بعض الأطباء يتفقون مع بعض الشركات الأجنبية على نسبة مالية محدّدة بشرط أنْ يكتبوا الأدوية التي يريدون ترويجها وطرحها في السوق، بالإضافة إلى النسبة المالية، فهناك سفرات مجانية ومؤتمرات علمية يحظى بها الطبيب خارج البلاد بالإضافة إلى هدايا باهضة الثمن، لذلك هم يكتبون العلاج بالاسم التجاري ويحذرون المريض في ذات الوقت من شراء ذات العلاج من شركة أخرى خوفًا على صحته، والحقيقة هم يلزموه بعلاج هذه الشركة بسبب الاتفاق لا لشيء آخر”.

توجهنا إلى شارع الأطباء وسط مدينة الديوانية، وهو شارع يكتظ بالناس، وفيه طرق غير معبدة، ورطبة، وتمتد اسلاك الكهرباء على طوله بشكل عشوائي، اما لافتات الأطباء فتوضع بشكل غريب حيث من المتعسر ان تجد الطبيب الذي تبحث عنه بسبب تزاحم اللافتات، وجدنا طبيب كتب على لافتته ان علاج الفقراء مجانًا زرناه واخبرنا عن بعض طرق السمسرة الطبية يقول الطبيب علي فوزي الخزاعي وهو طبيب باطني، إن “العمل الصحي هو عمل إنساني بحت، وكلما اتجه الطبيب نحو العمل الإنساني سوف يكون النجاح حليفه، لذلك يفتح بعض الأطباء باب العلاج المجاني في عيادتهم للناس “لميسوري الحال” من نازحين وعوائل الضحايا، وهذا واجب كل طبيب شريف في العراق”.

 إما عن “السمسرة الطبية”، قال الخزاعي في حديث لـ”الخط الاحمر”، إن “هذا موضوع مخجل، وهي ظاهرة موجودة، فبعض الأطباء من ضعاف النفوس، ومن اجل إنجاح عملهم يلجؤون إلى “السمسرة” من خلال اتفاقهم مع صيدليات وشركات معينة، تزيد من أعباء المواطن، وتجعل صحته ميدانًا للتجارب، ولا يوجد دافع لهذا الامر غير الشجع الذي يميز بعض الأطباء. 

أما المعاون الطبي والذي رفض الكشف عن اسمه لأسباب شخصية، فيرى في حديثه لـ”الخط الاحمر” أنّ “هذه الشركات مرتبطة بأحزاب مهيمنة على السلطة تساهم في تذليل الصعاب أمامها ولها نسبة مالية، بالإضافة إلى النسبة التي يحصل عليها الطبيب الذي تعاقد معها، إذ يحصل على نسبة كبيرة كلما يكتب العلاج التجاري الذي تطرحه الشركة”.

ويؤكد المعاون الطبي أن “بعض الأطباء يكتبون للمريض أكثر من جرعة فإذا كان يحتاج إلى جرعتين يكتبون أربعة وهكذا كلما كثر العدد تتضاعف النسبة لديهم على حساب صحة المريض وحينما يستلمون النسبة من الشركة يحظون بزيارة مجانية إلى البلد الذي يقع فيه مقر الشركة”.

يضيف المعاون الطبي أن “هناك نوع آخر من الاتفاقات وهي الاتفاقات التي تجري بين الطبيب ومختبرات التحليل وأيضًا يكون هذا الاتفاق على نسب مالية، لذلك غالبًا ما يرفض الأطباء التحليلات المرضية التي يأتي بها المريض، ويطلبون منه إعادتها عند المختبر الذي يتفقون معه حتى وإنْ كلفت التحاليل السابقة المريض أموال كثيرة”.

 فيما يقترح المعاون الطبي للحد من هذه الظاهرة أن يتم تسعير العلاج وأنْ يتم التعامل فقط مع الشركات الرصينة التي لا تحتاج إلى هذه التعهدات والاتفاقيات التي يدفع ثمنها المواطن وحده، بالإضافة إلى نشر الثقافة الصحية بين الناس، وفضح هذه الأساليب التي يلجأ إليها ضعاف النفوس من الأطباء”.

المستشفيات الأهلية.. هل هي فردوس الهاربين من جحيم المستشفيات الحكومية! 

بحسب إحصائية نشرها مركز البيان للدراسات والتخطيط فأن عدد المستشفيات الاهلية في العراق وصل إلى 235 مستشفى في مختلف مناطق العراق، مقابل وجود ما يقدر بـ 191 مستشفى حكومي تعاني الإهمال وعدم وجود تقنيات حديثة تخدم صحة المواطن، لا أحد يختلف أن وجود المستشفيات الأهلية يخفّف الضغط على المستشفيات الحكومية، كما أنها تتسم بسرعة إجراء العمليات بعيدًا عن الروتين المتبع في المستشفيات، بالإضافة إلى توفيرها الخدمات والراحة للمريض التي يفتقر إلى وجودها في المستشفى الحكومي، وهذا يعني أنّ العلاقة طردية بين المستشفى الحكومي والأهلي فكلما تردى الوضع في الحكومي انتعشت المستشفيات الأهلية وعلى حساب المواطن الذي لا يقدر على دفع تكاليفها باهظة الثمن حينما يكون مجبرًا على شراء راحته وصحته.

يقول الدكتور علي كاظم في حديثه لـ”الخط الأحمر” إن “انتشار المستشفيات الأهلية هو شيء تجاري والخدمات التي تقدمها هي أفضل الخدمات، كذلك نوعية الأطباء فهي تستقطب أطباء من كل انحاء العالم، بالإضافة إلى أنها تحتوي على أجهزة طبية حديثة”. فيما يعزو كاظم سبب انتشار هذه المستشفيات إلى “الإهمال من قبل وزارة الصحة وسوء الخدمات والروتين الممل بالإضافة إلى عدم توفر العلاجات والأجهزة الحديثة في المستشفيات الحكومية”.

وهكذا صار القطاع الصحي المتهالك أحد أكبر مصادر الفساد في العراق، في الداخل والخارج، لما يوفره من عقود ومناقصات، فالكثير من الأموال تدخل في جيوب الأحزاب والميليشيات وجهات نافذة في الحكومة، يستثمرون هشاشة النظام الصحي ويساهمون في ديمومته، حتى يضطر المواطن الى سفر خارج البلاد ولهم نسب كبيرة جراء ذلك، أو يلجأ الى المستشفيات الاهلية التي تعود إليهم كما يرى الدكتور حميد يونس. 

هذا الواقع الصحي المفروض في العراق جعل من الصعوبة بمكان عودة أكثر من 10 الاف طبيب اكفاء في مختلف الاختصاصات غادروا العراق في زمن الفوضى السياسية وانفلات السلاح، الامر الذي يمنح هذا الواقع الذي ينسج خيوطه على ارواح المواطنين عمرًا أطول. 

VIAعلي فائز