بسبب الفساد والإهمال من قبل السلطة المحلية، أعلنت البصرة، مدينة المياه والنفط ودرة ارض السواد، في صيف 2018، مدينة منكوبة بسبب تلوث مخزونها من المياه العذبة وتعطل كافة محطات التنقية. على إثر ذلك الحدث، دخل أكثر من 120 ألف شخص من سكان المحافظة الى المستشفيات، حيث سجلت أعداد غير قياسية لحالات التسمم بسبب المياه الملوثة. وعلى الرغم من وعود السلطة بإجراء تحقيقات للوقوف على أسباب الكارثة، إلا أنها كانت وعودا كاذبة قدمتها الحكومة المحلية لاحتواء الأزمة. 

كارثة تلوث المياه وحالات التسمم اضافة الى الاوضاع الاقتصادية والخدمية المتردية تسببت باندلاع تظاهرات عنيفة في محافظة البصرة، حاكت في فعلها الاحتجاجي مظاهرات السترات الصفراء في فرنسا. التظاهرات نددت بـ الشرخ الكبير بين السلطة والشعب، كما ونددت بنيوليبرالية مؤسسات السلطة التي أصبحت دكاكين مفتوحة تؤوي رجال الاعمال والباحثين عن المال من اللصوص والقتلة. كما وطرحت تلك التظاهرات اسئلة شككت فيها بأخلاقيات الدولة ومبادئ العدل التي ينادي بها الدستور العراقي، حيث امتدت ارتداداتها الثانوية الى تظاهرات تشرين الاول\اكتوبر الدامية والتي راح ضحيتها اكثر من ٧٠٠ شاب عراقي برئ اضافة الى آلاف الجرحى والمصابين بعاهات دائمة.

تقاعس حكومي 

 من خلال تقرير نشر في 2019، حذرت منظمة هيومن رايتس ووتش من تفاقم ازمة المياه مستقبلا؛ ورأت المنظمة الحقوقية في تقريرها أن السلطات المحلية “تقاعست عن تحذير السكان بشكل صحيح أو فوري من آثار المياه الملوثة وكيفية تجنب الضرر، أو عن التحقيق بشكل مناسب في الحالات الجديدة لمحاولة تقييم الأسباب المحتملة للمرض. كما أنها لم تعلن بعد عن سبب الأمراض المرتبطة بالمياه”.

ويعتمد التقرير على عشرات المقابلات مع سكان البصرة، وخبراء ومسؤولين حكوميين، إضافة إلى تحليل صور الأقمار الاصطناعية للبصرة. حيث كشفت تلك الصور تسربات نفطية في مياه شط العرب، و ازديادا في الطحالب الضارة التي يمكن أن تسبب آلاما في البطن، والحمى والقيء والإسهال الدموي عند استهلاكها من قبل البشر.

مصدر حكومي محلي أكد للخط الأحمر أن “الحكومة المركزية والمحلية استنفرت جهودها لاحتواء الأزمة.” بيد أن السلطة الناعسة في العراق لا تصحو من غفوتها الا حين توضع دماء العراقيين وحياتهم على المحك. تلك السلطة التي تسببت بكوارث لاتعد ولاتحصى منذ تأسيسها على يد قوات الاحتلال سنة ٢٠٠٣، لعل أبرزها كان الغزو الارهابي لتنظيم الدولة الاسلامية سنة ٢٠١٤ والذي كلف العراق مآسي ستمتد اثارها عبر الاجيال من خلال موجات نزوح وهجرات وابادات جماعية.

ووصف المصدر أن مياه في حينها “لم تكن صالحة لأي استعمال بشري او حيواني”، حيث سجلت المشافي آنذاك أكثر من 118 الف اصابة بالتسمم. يتابع المصدر كلامة بركاكة وخجل وحذر قائلا: لم يستخدم البصريون مياه الاسالة للشرب ولكن مدى التلوث كان عالي جدا لدرجة ان استخدامها  لغسل أواني الطعام تسبب في تسمم هذا العدد الهائل من المواطنين. مع الاشارة إلى أن ليس كل من تسمم قد راجع المستشفيات فمنهم من راجع العيادات الخاصة ومنهم من لم يملك اجرة النقل للوصول الى المستشفيات العامة.

وجود تلوث حاليا 

ازمة تلوث المياه بحسب المدير التنفيذي لمنظمة حماة دجلة ، سلمان خيرالله، “لم تنتهي وهي موجود لسنوات طويلة”. حيث أن حلول السلطة كانت ترقيعية ولم تكن بالمستوى المطلوب. حتى أن السلطة استخدمت الخزين الاستراتيجي من المياه العذبة في سد الموصل. كما وحرمت هور الحويزة من حصته المائية من خلال التحكم بنواظم نهر الكحلاء الذي يصب في الهور. هذه الإجراءات المكلفة، بحسب الاخصائيين، هي “غير مستدامة و تزيد الأوضاع سوء في الاهوار وتنذر بعاقبة أشد سوء وفي عموم العراق في حال نفذ الخزين المائي”. اجراءات السلطة الترقيعية دفعت اللسان الملحي باتجاه الفاو (ابعد نقطة في شط العرب باتجاه الخليج) ولكنها لم تكن كافية للقضاء على بقية الملوثات.

على شواطئ شط العرب في منطقة المعقل، القلب النابض لمدينة البصرة، تستطيع العين الغير مدربة أن ترى بقع الزيت والطحالب ذات الروائح الكريهة. ولتبيان الفروقات في حجم الملوثات الموجودة في شط العرب من خلال عين غير مدربة على استدراك حجم الخطر، تحدث بلال رحيم، متوسط العمر وأحد سائقي المراكب النهرية،  للخط الأحمر حول مدى التلوث وصفا الموضوع: القنوات المائية التي كانت تمثل متنفسا للبصريين “أصبحت قنوات تصريف مجاري ثقيلة تجلب لهم الأمراض والضيق.” 

في سياق متصل أكد خيرالله ما جاء في تقرير هيومن رايتس ووتش في عام 2018. مضيفا، إن “السلطة المحلية تخفي المعلومات وتتستر على الاخفاقات مما يزيد من وقع الكارثة لأنها تأتي دون سابق انذار”. كما بين “خيرالله” ان الحكومة المحلية لم تعلن عن أي نتائج تخص التحقيقات التي أعلنت عن إجرائها في 2018، موكدا ان وجدت النتائج فإنها، بحسب مصادره، “مزورة لمجرد تغطية لتقصيرهم بالعمل.”

ولتفسير الظواهر الطبوغرافية ومدى تأثيرها على حجم التلوث، بين الدكتور وليد الموسوي، مدير دائرة البيئة في المحافظات العراقية الجنوبية للخط الأحمر، أن التلوث في مياه شط العرب موجود بنسب كبيرة واهم اسبابه هي ان البصرة منطقة المصب، حيث تكون المنطقة الشمالية في العراق هي منطقة جبلية والوسطى منه هضبة عليا والجنوبية هب منخفض لوادي الرافدين. وعلى هذا الأساس تنساب المياه من الشمال للجنوب بفعل الجاذبية، وبالتالي كل الأنشطة الملوثة من مياه الصرف الصحي والمخلفات المعامل والمستشفيات وبحيرات الأسماك والأنشطة الصناعية سواء الحكومية أو الخاصة والتي تلقى في نهري دجلة والفرات تتركز في نهر شط العرب.

أسباب التلوث

واشتكت الحكومة المحلية في أكثر من مناسبة قلة الاطلاقات المائية المخصصة للبصرة والتي لا تكفي كل سكان البصرة وتصل للثلث من سكان المحافظة بحسب تصريحات صحفية منسوبة لمسؤولين محليين.

والسبب الآخر للتلوث يعود إلى العدوان البيئي الذي تشنه دول الجوار على العراق. اذ ان الاطلاقات المائية الوافدة من دول المنبع كتركيا التي أقامت العديد من السدود على نهري دجلة والفرات وكذلك إيران التي قامت بحرف مسار نهري الكارون وبهمن شير بشكل غير قانوني، أنهت عملية الإطلاقات المائية لنهر شط العرب وهذا الأمر يعد سببا رئيسيا للازمة البيئية في شط العرب بحسب الموسوي.

ويوضح “الموسوي” ان الاطلاقات المائية يجب أن لا تقل عن 90 متر مكعب في الثانية في بداية شط العرب لكي نضمن بقاء اللسان الملحي ضمن حدود مدينة الفاو وابتداء الخليج العربي ولكن الإطلاقات المائية هي أقل من هذا الرقم بسبب قلتها من دول المنبع وكانت على أشدها في عام 2018 لتصل مياه البحر الى مناطق شمال البصرة، وهي سابقة لم تحدث في تاريخ العراق منذ انسحاب مياه الخليج من مناطق جنوب العراق قبل عشر آلاف سنة تقريبا.

هذا ويعد الصرف الصحي بحسب “الموسوي” أكبر ملوث بمياه شط العرب. وفيما يخص معالجة مياه الصرف الصحي، فهناك محطة وحيدة لمعالجة هذه المياه في البصرة وهي محطة حمدان التي افتتحت عام 1982. حيث صممت هذه المحطة بطاقة استيعابية تصل لمليون شخص. وتعمل هذه المحطة في الوقت الحالي بأقل من 50 % من كفاءتها، مع العلم ان عدد سكان البصرة وصل إلى 4 ملايين نسمة. وبالتالي فالصرف الصحي الذي يطرح في شبكات المجاري لا يتم استيعابه بشكل كامل، ليتم إلقاء قسم كبير منه في القنوات المائية السبعة داخل محافظة البصرة.

كما تحدث “الموسوي” عن رصدهم لحوالي 700 نشاط ملوث، اضافة الى مياه الصرف الصحي الملقاة في القنوات المائية السبعة. حيث تلتقي هذه القنوات مع نهر شط العرب لتكون أكبر ملوث لشط العرب إضافة الى ملوثات دائرة البلدية، من مخلفات صحية وخدمية وصناعية.إذ تلقى النفايات في شط العرب على أمل دفعها باتجاه الخليج.

وفي ذات السياق تحدث خيرالله للخط الأحمر عن الأزمات المائية وتأثير المحاور الخارجية على القرار الداخلي للسلطة في العراق فيما يخص الاحتجاج في المحافل الدولية:  نسبة 80 % من نهري دجلة والفرات تدخل الى العراق بعد المرور بدول الجوار، و20% الباقية تأتي من الجبال العراقية في الشمال، “لكن حصة العراق تتعرض للسرقة في وضح النهار من دون رادع”. الامر الذي شجع دول “متنمرة” مثل تركيا وايران بقطع روافد كاملة مثل نهر الكارون الذي كان يصب في شط العرب. ونوه خيرالله، والذي ينحدر من مدينة البصرة، الى عدم وجود معاهدات أو اتفاقيات دولية بعد 2003 تضمن وصول هذه النسبة من المياه الى العراق، لذلك يعتمد العراق على الأمطار والخزين الاستراتيجي من المياه العذبة والثلوج. الأمر الذي ينذر بكارثة ستقضي على العراق، وتجفف شرايينه التي ضخت الحياة في الحضارة الإنسانية لتكتب اولى الحروف التي سجلت الضمير الإنساني تاريخه. مما سيغير العالم ككل، والى الابد. فالعالم بلا ميزوبوتاميا هو عالم مظلم، لأن هذه المنطقة لم تؤوي مجموعة اثنية دون اخرى بل كانت، وبسبب طبيعتها المفتوحة على جيرانها، بوتقة انصهرت فيها العوالم المختلفة لتكون خليطا مميزا من المجموعات العرقية والاثنية.

اما عن المشاكل الداخلية فيقول خيرالله ان السلطة في العراق تفتقد الى “إدارة جيدة للموارد المائية”، حيث سجلت الحكومة العراقية في 2018 أكثر من 23 ألف حالة تجاوز على نهر دجلة. نصف هذه التجاوزات كانت من قبل دوائر الحكومة نفسها، إضافة الى وقوع النصف الاخر على عاتق الشركات الخاصة التي تتمتع بحماية سياسية، اضافة الى الاسراف وعدم ترشيد المياه بسبب عدم وجود سياسة تفرضها السلطة المدنية فيما يخص مياه الاسالة، مثل الرسوم الضرائب. ويتفق خيرالله مع الموسوي في ان البصرة لا تصلها حصتها من المياه بالكامل بحسب ويشير إلى أن المدينة بحاجة الى  إلى 75 متر مكعب من المياه لدفع مياه الخليج المالحة.

 الخبير البيئي والأكاديمي الدكتور شكري الحسن بين أن “الظروف المحيطة بنهر شط العرب لا تبشر بخير” فكمية تصريف المياه الواصلة الى شط العرب من نهر دجلة لا بأس بها، ولكن المشكلة التي حصلت هي غلق نهر الكارون القادم من إيران الذي كان يساهم ب 50 متر مكعب في الثانية في الجزء الجنوبي من شط العرب وبالتالي كان يقف حائلا أمام امتداد الموجة الملحية. وعندما أغلق نهر الكارون قبل أشهر من الأزمة سنة 2018، نتيجة لبوادر موجة جفاف في إيران والمنطقة، الأمر الذي سمح بدخول الموجة الملحية من الخليج العربي باتجاه أعالي شط العرب وبالتالي كمية التصريف القادمة من نهري دجلة والفرات أصبحت غير قادرة على صد هذه الموجة الملحية، بحسب الحسن.

ويفسر الحسن ظاهرة التسمم الواسعة قائلا: مياه شط العرب العليا، والقادمة من نهري دجلة والفرات محملة اصلا بكميات كبيرة من الملوثات المختلفة التي اختلطت بالأملاح البحرية القادمة من الجنوب عبر الخليج العربي مما أدى إلى تمازج كيميائي بيئي يسمى بتفاعل التحول. هذا التفاعل ادى الى تكوين معقدات كيميائية سامة، حيث أصبحت المياه فتاكة وهذا ما نتوقع ظهوره خلال الأسابيع القليلة المقبلة ما لم يتم زيادة التدفق لمياه التصريف القادمة من نهر دجلة.

بينما كانت السلطات العراقية المتعاقبة تركز موارد الدولة على الأمن والدفاع ، تم إهمال الموارد الحيوية مثل الأنهار ومتابعة تقاسمها بشكل عادل مع الدول المجاورة. نتيجة لذلك ، يعيش العراق اليوم تهديدًا وجوديًا حيث يتم بناء المزيد من السدود كل فترة. و بسبب وجود وكلاء سياسيين لتركيا ايران داخل السلطات التشريعية والتنفيذية العراقية، اصبح من المستحيل تقريبًا الاحتجاج على هذين البلدين الجارين بسبب الإجراءات أحادية الجانب المتعلقة بالمياه. في نهاية المطاف، الجماهير العراقية التي دفعت ثمن أكثر من 40 عاما من الحرب والعقوبات وتضليل النخب السياسية ستدفع ثمن ندرة المياه وتلوثها.

VIAسامان داود\سعد ناظم