نشر مارك إيشينغر، عميل المخابرات الخاص السابق الذي تحول إلى مُبلّغ عن المخالفات، كتاباً يكشف فيه عن عدة حالات فساد تربط فرنسا والعراق، تورط خلالها سياسيون من أكراد تركيا والعراق، بالإضافة إلى عدد من الشركات الفرنسية، في تمويل الإرهاب عبر تجارة النفط مع داعش خلال العقد الماضي. في مقابلة حصرية له مع “الخط الأحمر”، يوافق إيشينغر على إلقاء الضوء على بعض القضايا التي كشفها في كتابه.

نشرت للتو كتاباً يربط بين الفساد وفرنسا والإرهاب. هل بإمكانك أن تحدثنا عن هذا الموضوع من منظور عراقي؟

لقد أدركت من خلال التحقيق الذي أجريته، أن داعش ما كانت ستستحوذ على الصلاحيات والقدرات في كل من العراق وسوريا لولا وجود مصدر تمويل ثابت، يوفر إيرادات منتظمة وهائلة الحجم. مصدر التمويل الوحيد الذي يمكنه أن يوفر إيرادات كهذه هو النفط. في مناطق الحرب، يوجد مصدران محتملان للدخل الهائل، هما المخدرات والنفط. والنفط هو الذي قدّم لداعش إيرادات كافية ومتكررة. لا تكمن الصعوبة في اقتصاد الحرب بتمويل الأعمال المعزولة، بل بتحصيل إيرادات ثابتة تدفع أجور المقاتلين – ومقاتلي داعش كانوا يحصلون على رواتب جيدة – وتضمن إمدادات الأسلحة والذخيرة. فالحروب مكلفة للغاية، وداعش كانت بحاجة إلى كل ذلك. والنفط مصدرها الوحيد الذي يمتلك هذه الإمكانية. كل شيء آخر – من تهريب آثار وأخذ رهائن، إلخ. – ضئيل مقارنة بأرباح النفط.

انهار الجيش العراقي في مناطق السنة بسبب انعدام الحافز لدى الجنود الذين لم يتلقوا رواتبهم بانتظام. أما الإرهابيون، فكانوا عازمين ومُدربين (كثيرون منهم جاءوا من كوادر بعثية سابقة). استغرق صعود داعش سنوات، لم يحدث الأمر فجأة. لم يكن القائمون على واجباته اليومية من الأجانب، بل كانوا أعضاء شبكة محلية. كل هذه الفوضى حصلت إثر قرار بول بريمر السخيف بمنع البعثيين السابقين من تولي الوظائف الحكومية، عندما أصبح حاكماً للعراق. سقط الجيش والحكومة برمتها في تلك المرحلة، وألّف العديد من هؤلاء أعضاء تنظيم داعش. ولأن الفساد لا يؤدي إلا إلى تأجيج السخط، فقد وجد الناس دافعاً للقتال من أجل مبادئ مشبوهة. أكثر من 40٪ من سكان الموصل تعاونوا مع داعش، لأن داعش كانت أفضل بالنسبة إليهم من أوجه الظلم الذي عانوه مسبقاً. لكنهم لم يدركوا نتيجة ذلك. فأكثر الجوانب تطرفاً في إيديولوجيا داعش جاءت من الأجانب. لم يكن ذلك متوقعاً. وما كانت داعش لتتمكن من الحفاظ على نفسها من دون سلسلة من الجهات الفاعلة تؤمّن تصدير إنتاجها النفطي.

كشف تحقيق إيطالي أجراه اثنان من المدعين العامين عن 52 شحنة غير قانونية تمت الموافقة عليها، من بين شحنات أخرى لم تحصل على اعتماد بسبب نقص الأدلة. إحدى الأطراف المشاركة في هذه الصفقة كانت شركة الخدمات اللوجستية الفرنسية روبيس. وقدّرت قيمة هذه الشحنات بـ 1.2 مليار يورو. هذا كله غيض من فيض. موَّلت هذه الإيرادات عمليات تنظيم داعش، ومكنتهم من الحصول على إنتاج مستقر نسبياً نظراً إلى قلة الموارد، فهم لم يكونوا خبراء نفط. ولكنهم جندوا مهندسين لذلك، كما استفادوا من البنى التحتية الموجودة مسبقاً. قاموا بتحميل الزيت على شاحنات لا تملك سعة كبيرة، وباعوا النفط في البداية بنسبة 30٪ من قيمته. حصل العديد من الوسطاء على نسب من هذه المعاملات، فقد جاء النفط من العراق (سهل نينوى في الغالب)، وحقول النفط في شرق سوريا. وقد أكدت مصادر عديدة أن أعضاء بارزين من العائلتين الحاكمتين في كردستان العراق، الطالباني والبارزاني، كانوا من بين هؤلاء الوسطاء. وبذلك فقد خانوا شعبهم، كما لطالما فعلوا. المال أثمن من كل شيء. 

كان هناك أيضاً متعاونون تورطوا في تهريب النفط بين الأوساط العربية في العراق، أليس كذلك؟

وفقاً للبيانات التي حصلت عليها من مصدري، والتي يمكن الاعتماد عليها تماماً، فإن جميع الجهات المشاركة في أعمال تصدير نفط داعش عبر تركيا كانوا أكراداً عراقيين. أنشأت هذه الشبكة بتعاون بين السلطات التركية والكردية، اللذين كانت لديهما عادة تجاوز بغداد في المعاملات بينهما، وكانت هذه طريقتهما في العمل منذ سقوط صدام عام 2003. كان النفط يمر عبر الأجزاء الجنوبية من تركيا وصولاً إلى دورتيول، وهي محطة شحن في مقاطعة هاتاي، ومن دورتيول، ترسل الشحنة إلى سردينيا في إيطاليا، وكثيراً من الأحيان إلى إسرائيل. سيطرت شركة الخدمات اللوجستية الفرنسية روبي على إحدى المحطات في دورتيول، بعدما استثمرت فيها عام 2012، بالشراكة مع مجموعة الأعمال التجارية لبيرات البيرق (صهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان)، وبمشاركة من بنك بي إن بي باريبا الفرنسي. كان كل شيء مخططاً بشكل مثالي، ومن الواضح أن كل وكالة استخبارات يمكن أن تراه، أولاً لأن محمد أباب، الذي شارك في إقامة شركة روبي في تركيا، كان يتعاون بالفعل مع وكالة المخابرات المركزية منذ سقوط صدام.

ما دور فرنسا في كل ذلك؟ 

كانت السلطات الفرنسية وأجهزة مخابراتها على علم تام بالوضع. وقد وجه سفير الاتحاد الأوروبي في العراق تحذيراً إلى فرنسا آنذاك، فيما يخص مرور نفط داعش عبر تلك الشبكة. كان من الواضح أنه لا يمكن تجاهلها، مثلما لا يمكن تجاهل وجود فرع للموساد في أربيل منذ عقود. إني أشرح في كتابي الروابط بين إسرائيل وعائلة البارزاني. لهذا انتهى الأمر بالنفط في إسرائيل، لا يمكن لأحد أن يتجاهل الأمر. في عام 2012، واجهت إسرائيل عجزاً في الطاقة، وكان من المهم بالنسبة لها أن تحصل على النفط بسرعة لكي تنتج الكهرباء، فجاءت هذه الصفقة بمثابة فرصة لها، لأنها بيعت بسعر مضحك. لذلك أخذتها من دون أن تطرح أي أسئلة.

هل استفادت الدولة التركية من هذا النقل النفطي؟ أم أنه كان مربحاً فقط لعدد قليل من رجال الأعمال المقربين من أردوغان؟

أصول الدولة التركية ممزوجة مع عائلة أردوغان، لذلك لن تواجههم مشكلة في هذا الخصوص.

لنتحدث عن تطور صناعة النفط في العراق بين عام 2003 وصعود داعش؟

ما ينبغي وضعه في الحسبان هو أن الهدف الحقيقي لتدخل الولايات المتحدة في العراق كان التأكد من تحول عقود الخدمة النفطية إلى عقود مشاركة نفطية. هناك فرق جوهري بينهما ينبغي فهمه. عقود الخدمة هي ما يرسل إلى دولة ما لكي تسمح لشركة مثل توتال أو بي بي أو شِل باستخراج النفط. يتقاضى هؤلاء ربحهم بالبرميل، ولكنهم لا يمتلكون احتياطي النفط في الأرض. لذلك هي عقود خدمة خالصة. أما عقود المشاركة، فتسمح للشركة بمشاركة قيمة الاحتياطات الأرضية، وإدراج الاحتياطات المثبتة في الحقول التي تستخرج منها في ميزانيتها العمومية. كما أنها تضيف قيمة أكبر للشركة، بفوائد الإنتاج والاحتياطات المثبتة في الأرض. 

لذلك كانت الفكرة تقضي بالإطاحة بصدام وتحويل هذه العقود، مثلما حاولوا أن يفعلوا في إيران في عهد محمد مصدق. لكن الأمور لم تسر وفقاً للخطة في العراق، لأن العراق لديه خبرة قوية وقديمة في اقتصاديات النفط. وقد حاول بول بريمر في البداية تغيير هذا النظام، ولم ينجح إلا مع الأكراد (لم يكن لدى الأكراد معرفة تذكر في هندسة البترول، كما لم يعرفوا شيئاً عن عقود المشاركة والخدمة؛ كنت تدفع للواحد منهم لكي يوقع على أي شيء). كان الفساد مستشرياً بين إدارة بريمر والزعماء الأكراد المحليين وشركات استخراج النفط. وكان بإمكان شركة ما أن تُدرَج في سوق الأوراق المالية في لندن حتى لو كانت فارغة، لتأتي بعدها إلى حكومة إقليم كردستان وتوقع عقوداً مربحة للغاية. لقد حدث ذلك. وقد رأيت بعيني تقارير شركات النفط التي كان من المفترض أن تجري مسوحات زلزالية، وكانت جميعها مزورة. أعلنّا عن مليارات البراميل، لكنها كانت كلها خدعة. وقد صدرت التقارير التي تعلن عنها في كردستان حتى قبل وصول شاحنات المسح الزلزالي. لم يكن الأمر منطقياً. ولم يكن أحد يتحقق من هذه الشركات المزيفة. يمكنك أن تدرج أي شيء في أي مكان (إليك سحرَ البورصة البريطانية والكندية في تورنتو: يمكنك التظاهر بأي شيء، ولن يطرح أحد أي أسئلة).

في هذا السياق، أتت العديد من الشركات الفرنسية إلى العراق. هل أنجزوا عملاً صادقاً؟

يوجد نوعان من القصص. هناك من ذهبوا للعمل في الأجزاء الفيدرالية من العراق وتورطوا في الفساد (كان بوريس بويلون يشغل منصب سفير فرنسا في العراق آنذاك، وقد استخدم المعلومات الحصرية التي بحوزته لمساعدة الشركات الفرنسية على التحرك بيسر في اقتصاد العراق). وهناك آخرون حاولوا القيام بأعمال تجارية في الأجزاء الكردية. 

مُنع الأكراد في عهد صدام من الانخراط في أي أعمال تتعلق بالنفط. كان من المفترض أن توجد القليل من رواسب النفط في الشمال حول دهوك، من بين أماكن أخرى. كما كان هناك، لفترة قصيرة من الوقت، حقل نفط يعود إلى الصينيين على الحدود الإيرانية. كانت إمكانات حكومة إقليم كردستان معروفة إذاً. وبعد سقوط صدام، سارعت الكثير من الشركات الطموحة وعديمة الضمير للذهاب إلى كردستان، حيث قدمت وعوداً سخية. تحول الحلم إلى كابوس مع مر الزمن، لكنه سمح لحكومة إقليم كردستان بأن تصبح أكثر ثراءً خلال عقد من الزمن، في حين كانت تعتمد في السابق، وبشكل كامل تقريباً، على الزراعة والتهريب. لطالما كان الأكراد مهربين، لقد قاموا فقط بتغيير السلع. قبل صدام، كانت أربيل مدينة صغيرة بلا مطار. أما الآن فهي مدينة نابضة بالحياة. كل شيء ملكٌ لعشيرة البارزاني الآن، ولكنه موجود على الأقل. 

فيما يتعلق بإدارة النفط بعد سقوط صدام، برأيك هل سمحت الإصلاحات التي تم وضعها أن تنال السلطات العراقية نصيباً عادلاً إلى حد ما من منافع إنتاج النفط في البلاد؟ 

نعم، إلى حد ما، ولكن يجب أن نضع في عين الاعتبار أن أغلبية موظفي الحكومة من السنة، الذين كانوا مسؤولين عن قطاع النفط من البلاد، قد فرّوا بعد سقوط النظام البعثي إلى الأردن، وأخذوا معهم أرشيف وزارة النفط. وأصبح بالإمكان شراء مواد من أرشيف وزارة النفط من بعض مقاهي عمّان. تركَ ذلك العراق فجأة مع حكومة تتألف من موظفين شيعة، معظمهم موالين لإيران. لم يكن هؤلاء مهتمين على الإطلاق بمحاباة الأمريكيين. وتغاضوا عن زيادة القوات في حرب العراق (عندما صعّدت الولايات المتحدة الأمريكية عملياتها ضد جيوب المقاومة في المناطق السنية، بموافقة من اللواء الإيراني قاسم سليماني آنذاك). بعد ذلك فقد الأمريكيون سلطتهم، لأن الشيعة حصلوا على الأغلبية، ولدى العراقيين خبرة في إنتاج النفط وإدارته. كيف يمكن للأمريكيين أن يبرروا إرسال مستشارين بعد الآن؟ العراق عضو مؤسس في منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك)، التي تأسست عام 1960 في بغداد. لقد رأى العراقيون ما كان قادماً من على بعد أميال. وأقيمت مزادات لتراخيص الاستخراج، أعتقد أنها كانت عادلة. معظم الشركات التي حصلت على هذه التراخيص مختصة. وكنتَ ستعرف ما إذا كان المزاد خدعة لو حصلَت شركة من دون خبرة في التنقيب على إحدى هذه التراخيص. لكن ذلك لم يحدث. وتمتعت الشركات العاملة في حقول النفط الرئيسية بالمهارة. لم يكن الحال كذلك في الأجزاء الكردية من العراق، حيث كانت الأمور خارجة عن السيطرة. 

تكمن المأساة بأن عائلات نافذة هي التي تختلس عائدات إنتاج النفط. عائلة الحكيم، مثلاً، تسرق المال مباشرة من البنك المركزي للحكومة، ولا تفرّق بين ودائعها الشخصية وودائع الدولة؛ كما أنها تضخ الأموال في العادة على شكل سندات دولار قبل أن تصدّرها إلى خارج البلاد. لقد تعقبنا خلال إحدى العمليات التي قمت برصدها، شحنة بقيمة 500 مليون دولار كانت متجهة إلى جنيف. اخترقتُ عملية غسيل الأموال تلك. كانت عائلة الحكيم متورطة فيها؛ وكان من المفترض أن تشحن الأموال من البصرة، ثم ترسل إلى إيطاليا قبل أن تصل إلى جنيف. لكنهم قاموا آخر الأمر بتغيير الوجهة إلى بيروت. وبالنسبة لي كان من المستحيل أن أذهب إلى هناك، بسبب حركة حزب الله التي لدي مشاكل معها، وامتلاكهم شبكة استخبارات فعالة للغاية. اضطررت للتخلي عن عملية الرصد، ولكنني عرفت أن الأموال دخلت عبر الحدود التركية من خلال حكومة إقليم كردستان، حيث تجري الكثير من عمليات التهريب. ذات مرة رأيت توابيت مليئة بالنقود تمر من هناك. 

من المهم أن تضع في الاعتبار الكتلة التي تمثلها هذه الأموال. خمسون مليون دولار تساوي 650 لتراً من فئة المئة دولار، يعني نصف طن. كانت هناك عشرة أضعاف هذا المبلغ في هذه العملية. كانت خطة الحكيم وشركائه هي شراء شقق من المسيحيين في بيروت، وطردهم – أي المسيحيين – من وسط المدينة. وكان وكلاؤهم على الأرض في لبنان يتنقلون من باب إلى باب ويجبرون أصحاب المنازل على بيع منازلهم. كانت مؤامرة لتوسيع السيطرة العقارية لدى الجهات الشيعية في لبنان. وقد شارك عمار الحكيم بشكل مباشر في هذه العملية.

آل الحكيم من أقوى العائلات في العراق. كان لديهم جيش خاص من عدة آلاف نفر، مثّلوا إحدى الركائز التي اعتمدت عليها إيران لخدمة مصالحها في العراق. 

هل تغيرت الأمور منذ ذلك الحين؟ 

الذي تغير هو مقتل قاسم سليماني. لم تعد العلاقة مع إيران مثلما كانت. لقد كان سليماني عقلاً لامعاً، واستراتيجياً ممتازاً على المستوى الدولي. لكنه كان متعطشاً للدماء، متعصباً حقاً لمبادئ الثورة الإسلامية. وكانت لديه خطط طويلة المدى. بل إنه تقرّب من الفلسطينيين بهدف مواجهة إسرائيل. وبفضله تمكنت بعض الحركات الفلسطينية من تحسين القدرات الصاروخية لديها. كانوا يصنعون الصواريخ من الصفر هناك، ولكن بعد ذلك، صار حزب الله يطور تقنياتهم وإمداداتهم. كما أنشأ سليماني جسوراً مع الحركات السنية لتوحيد القوى ضد أعداء إيران، وكانت وفاته ضربة كبيرة لهذا المشروع. القيادة الإيرانية في الوقت الحالي ليست على نفس القدر من الكفاءة. 

في سوريا، خففت الحكومة صلاتها بإيران. سوريا تزود لبنان بالكهرباء، وتغمر الشرق الأوسط بالمخدرات. أما إيران فترى نفسها معزولة نسبياً في حربها ضد إسرائيل، خصوصاً بعدما وقّعت تل أبيب اتفاقيات إبراهيم مع العديد من دول المنطقة. لقد سئمت دول الجوار من الحرب الدائمة مع إسرائيل، التي طالما انتهت بالخسارة. التطبيع هو الاتجاه الجديد. لم يتم التوصل إلى اتفاق نووي إيراني بعد. الصراع الأوكراني يؤثر على شكل المفاوضات، ويرفع من مستوى الخوف من نشوب صراع عالمي. والقوى النووية حذرة من خطر انتشار أسلحة الدمار الشامل في هذه المرحلة.

على الصعيد الاقتصادي، هل من مصلحة العراق أن يحافظ على نموذج الاقتصاد الريعي، حيث النفط هو المصدر الرئيسي لدخل الدولة؟ 

لا، فالنفط لعنة. إنه مثل وضع حفنة من العنب على فم شخص ما وترك الحبّات تسقط شيئاً فشيئاً. إنه مضيعة للمال، وغير منتج بتاتاً. إنه أمر لا يصدق. لقد أنفقنا تريليونات الدولارات لإعادة بناء العراق. وعندما غادرتُ البلاد، لم يكن هناك شيء صامد فيها. من المؤسف أنه لا توجد قطارات ولا بنى تحتية للإنتاج، وما إلى ذلك… 

نظراً إلى فساد الأعمال وطبيعتها الافتراسية في البلاد، هل يمكن أن تتخيل العراق قادراً على تنويع اقتصاده في المستقبل؟

من أجل تحقيق اقتصاد سوق مرضٍ، ينبغي تحطيم النظام العشائري. لا يمكنك فعل أي شيء في العراق بدون موافقة عشائرية؛ والعشائر، لا الحكومة، هي المسؤولة عن كل القرارات الحاسمة على الأرض. إذا رغب عالم أو رجل أعمال أن يبني شيء ما في العراق، فإنه سيكون ملزماً بقرارات زعماء العشائر. وإذا كان عليك في كل مرة أن تستخدم طريقاً ما، فيتوجب عليك دفع المال لقبيلة المنطقة، وهذه مشكلة. لا يوجد حل سوى تحطيم هذا النظام. إن إعادة إعمار الموصل محكوم عليها بالفشل لأن الجميع يريدون الاستفادة من هذه العملية. وعندما يحين وقت إعادة البناء، سيكون الطبق فارغاً لأن كل ممثل على الأرض أخذ قطعة من الوجبة. لم تسلّم الأموال لإعادة بناء الموصل، لأنه من الواضح أنها لن تستخدم لإعادة إعمار المدينة، وإنما لزيادة بعض الثروات الشخصية.

من المهم أن تأخذ في الحسبان مدى صعوبة العمل في العراق، إذا كنت رجل أعمال صناعي على سبيل المثال. أذكر هذه القضية من عام 2011 أو 2012: جاء مستثمر تركي أجنبي إلى العراق ليقترح إعادة بناء المرافق الترفيهية في المدن، فتم تقديمه إلى شخص كان يعتقد أنه رئيس بلدية بغداد. حصل المستثمر على وثائق مختومة ودفع المبالغ وترك فوقها بقشيش. ولكن عندما حان الوقت لبدء المشروع، أدرك المستثمر أن كل شيء كان مزيفاً. هذه هي العراق. الحصول على جواز سفر مزور أمر سهل للغاية. حتى اليوم، يمكنني الحصول على مستندات مزورة لأي غرض إداري مقابل مبلغ زهيد. 

هل ترى أن حركة تشرين التي انبثقت عن انتفاضات 2019 ستمهد الطريق لتغيير السياسة في العراق؟

لنأمل ذلك. لكن ينبغي أن نتذكر أن بغداد ليست العراق. ما يزال المجتمع هنا عشائرياً للغاية، أما خارج العاصمة فلا يكترث الناس بما يحصل. إننا نرى رفضاً متزايداً لإيران في المجتمع العراقي؛ فقد تراجعت العلاقات مع طهران قليلاً، وذلك يعود بشكل جزئي إلى مكامن الضعف لدى إيران. يريد العراقيون أن يتنفسوا أكثر. لكن إيران لن تترك الأمور تجري بتلك السهولة. فمن الناحية الاستراتيجية، لا يمكن للجمهورية الإسلامية أن تفعل ذلك. المحور الشيعي بالغ الصغر، ولا يمكنهم فقدان هذا الحصن. إنها قضية بقاء. يبلغ الشيعة قرابة 300 مليون مقابل 1.3 مليار من السنة، لو أردنا النظر إلى الأمر بهذه الطريقة.

ما هو رأيك في قضية النفط مقابل الرواتب بين حكومة إقليم كردستان وبغداد؟ 

كان يجب تطبيقها منذ عام 2005، ولم تطبق بعد. فالبارزانيون، وهم مهربون بطبيعتهم، لا يقبلون الحكومة المركزية، بل يرونها ضعيفة، ولا يقدمون أي تنازلات لها. وسوف يستمرون في القيام بذلك لأنهم يستطيعون، وبدعم من الحكومة التركية أيضاً. في كل مرة نسأل الولايات المتحدة الأمريكية عن سبب استمرارها في دعم هاتين العائلتين اللتين لا تفعلان شيئاً سوى نهب السكان وإطعامهم على حساب الاستثمارات الدولية (مما يزيد من انعدام الأمان، لأن الناس سئموا من هذا الوضع والجماعات الإرهابية تعرف جيداً كيف تستغل اليائسين)، يأتي الرد بأنهم يفعلون ذلك مقابل الخدمات الاستراتيجية. معظم العمليات ضد إيران تنطلق من حكومة إقليم كردستان. سيكون من السهل جداً الضغط على عائلة بارزاني. ولكن لماذا يحتاجون دائماً إلى المزيد، وهم لديهم المليارات؟ هناك صور متداولة لبعض ورثة البارزاني في بيوت الدعارة في جنيف… إنه أمر مقزز. هؤلاء الناس لا يستثمرون في بلدهم إلا إذا صب ذلك في مصلحتهم الشخصية. لا توجد فرص عمل. الفقر منتشر. حصل بعض التحسن، ولكن حكومة إقليم كردستان يجب أن تكون غنية مثل دبي أو سويسرا اليوم. أعتقد أيضاً أنه من الخطأ أن تستمر إسرائيل في دعم عائلة البارزاني. كثيرا ما نسمع أن كردستان العراق هي “إسرائيل الصغيرة”. لكنها بالنسبة لإسرائيل مركز استراتيجي للغاية، على مفترق طرق بين إيران وتركيا وسوريا وبقية العراق. لكنها ليست حليفاً موثوقاً به. أن تكون متحالفاً مع البارزاني يعني أنك سوف تتعرض للخيانة يوماً ما. لم أر قط شريكاً، سياسياً أو اقتصادياً، لم يتعرض للخيانة من قبل البارزاني في وقت أو آخر. وكلما جاء مستثمر إلى أربيل بهدف تحقيق مشروع ما، كان مترجموه بالضرورة وكلاء يعملون لصالح عائلة البارزاني. لا يمكنك الاستثمار والتأكد من أنك ستحقق أرباحاً في ظروف كهذه. لقد رأيت أشخاصاً يتعرضون للسرقة خلال لحظات هناك. لا يوجد نظام قضائي مستقل في حكومة إقليم كردستان. عندما يحين وقت الاستثمار، يجري استقبالك مثل ملك. ولكن حالما يصل المال إلى هناك، ينتهي كل شيء.

هل يسيطر الحكام الأكراد اليوم على خط أنابيب جيهان الممتد بين حكومة إقليم كردستان وتركيا؟

نعم، هم يسيطرون عليه. يصدّر خط الأنابيب النفط المنتج في إقليم كردستان. ويمر القليل من النفط من منطقة كركوك، التي أصبحت الآن منطقة فيدرالية وإن كانت متنازع عليها. أذكر كركوك، حيث كنت أعمل. كانت تعمها الفوضى. كان مشفاها فارغاً، يصله محتضرون. لم يكن هناك أسبرين حتى. كان من الجنون، بالنسبة لي، أننا لم نتمكن من مطالبة الأطراف المتنازعة بالتوصل إلى اتفاق وقف لإطلاق النار من أجل إرسال الأدوية. كل شيء تم سلبه من قبلهم.

في عام 2014، عندما ازدادت قوة داعش في المناطق المتنازع عليها، استغلت القوات الكردية انسحاب جيش الحكومة المركزية، وسيطر قادة حكومة إقليم كردستان على العديد من حقول النفط، وزادوا إيراداتهم، مما جعل أي اتفاق بين بغداد وأربيل أمراً مستحيلاً. ما الحافز لدى الحكام الأكراد للتفاوض مع الحكومة المركزية؟

إنك تذكر في كتابك شركة فرنسية قامت بتمويل الإرهاب من خلال توفير الخدمات اللوجستية لشحن نفط داعش. ما الذي تتوقع حصوله على المستوى القانوني بهذا الخصوص؟

آمل أن نتوقف عن معاملة ضحايا الهجمات الإرهابية مثل الحمقى، وأن نعترف بما حدث بالفعل. هذا جانب أساسي من كتابي: إظهار خطوات التطور بين النزاعات في ليبيا وسوريا وما إلى ذلك… وصولاً إلى هذه الحالة. إن تصاعد الإرهاب في السنوات الأخيرة لم يندلع على حين غرة كما زُعم. يجب قول الحقيقة، ويجب محاسبة المسؤولين في فرنسا، بمن فيهم وزير الشؤون الخارجية جان إيف لودريان. لا أعتقد أنه سيواجه منصة القاضي على الإطلاق؛ وحتى لو ذهب أمام محكمة العدل في الجمهورية الفرنسية، فلن يكون لذلك أي أثر. لكننا على الأقل سنلقي بذلك بعض الضوء على الأكاذيب التي قيلت. في النهاية، سيتعين على شركة روبيس دفع ثمن الضرر الذي تسبب فيه. هل سيذهب الأفراد إلى السجن بسبب هذه الأفعال؟ لا أظن ذلك مع لأسف.