يعود سبب هذه الأزمة إلى سنوات الصراع والفوضى التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، حيث أصبح العديد من المواطنين والناشطين والصحفيين والمسؤولين الحكوميين هدفاً للخطف والاختطاف من قبل جماعات مسلحة وميليشيات وطوائف مختلفة، وتتعذر عمليات البحث عن المفقودين في ظل ضعف الاستقرار الأمني في البلاد، بالإضافة إلى انعدام الدعم من الحكومة والمؤسسات الأمنية. وتواجه أسر المفقودين صعوبات كبيرة في البحث عن أحبائهم، وغالباً ما تتعرض للاستغلال والابتزاز من قبل المختطفين وعصابات الاتجار بالبشر.

مضت سنوات طويلة على اعتقال ابني رغم سعيي المستمر لمعرفة مصيره،  تروي “ام محمد” قصتها بدموع تفطر القلب وآهات وتنهيدات يندى لها الجبين، رغم كل الجهود التي بذلتها لكن إلى اليوم لاتعرف عنه شيئاً، وتسرد  “ام محمد” قصتها  “حاولت بمساعدة الخيرين مقابلة الجهات الحكومية طيلة هذه السنوات، لكن دون جدوى” ملامح الحزن كانت تسيطر عليها والألم يعتصرها، حيث كانت تنظر لحفيدها وزوجة ابنها المغيب، ولاتخفي دموعها وهي تستذكر محمد الذي كان المعيل الوحيد للعائلة، وتضيف “أصبحت في وضع لا احسد عليه، سمعت الكثير من الوعود ولم يتم تحقيق أي منها لغاية اليوم، رغم مطالبتي المستمرة بالكشف عن مصير ابني حتى لو كان مقتولاً”.

“أضن أن هناك تسويف لملف المغيبين والمفقودين، لست انا الوحيدة الآلاف مثلي يعانون، لم ولن اسكت” هكذا انهت ام محمد كلامها .

ويعاني العراق من أزمة المغيبين ومفقودين، حيث تقدر الأرقام الرسمية عدد المفقودين بأكثر من 16 ألف شخص منذ عام 2003،  فيما تشير تقارير المنظمات الحقوقية إلى أن العدد الفعلي أكبر بكثير.

وينقسم المغيبون ما قبل 2003 بحسب الناشط السياسي “نوري حمدان” إلى نوعين الاول لم ينصف وهم ما تم تغييبهم بالحروب الخارجية كالحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج، حيث يغيب الكثير من الجنود العراقيين ولم يعرف مصيرهم حتى اليوم، حمدان في تصريح خص به الخط الاحمر  مُضيفاً “ماتم تغييبهم لأسباب سياسية ومنها الاحتجاجات الشعبية التي كانت تواجه بالقمع من قبل الأجهزة الأمنية للنظام آنذاك”.

وتم تغييب عدد لا قليل من الكورد في إقليم كوردستان وايضاً في المناطق الجنوبية والغربية ومناطق اخرى، وكل من يختلف مع النظام إذا كان على الصعيد السياسي والأمني وحتى الاقتصادي يمكن أن يتعرض للتغييب، وحتى اليوم لا أحد يعرف مصيرهم بحسب حمدان مستدركاً بالقول “لا توجد هناك إحصائيات واضحة وحقيقية تكشف عدد المغيبين او المفقودين “.

مفارقة كبرى لما ما قبل وبعد 2003

 خلال العشرين سنة الماضية اختفى الآف الرجال ولم يعرف بعد أي أثر لهم

حمدان بين أن هناك مفارقة كبرى بعد 2003 والنظام الجديد الذي يدعي الديمقراطية وقياداته الذين يدعون بأنه تم اضطهادهم من قبل النظام السابق. هم ايضاً لم ينصفوا الذين تم تغيّبهم ما قبل 2003 لا من الجانب القانوني ولا من جانب اجراءات الكشف عن مصيرهم والتي أهملت بسبب انشغالهم بتقاسم السلطة وتقاسم الثروة والتمكين من خيرات البلاد، ولم يضعوا نظاماً صارماً يمنع العراقيين الذين تعرضوا للتغييب بعد التاريخ المذكور، الكثير من الناشطين المدنيين والصحفيين والاعلاميين الى اليوم لم يعرف مصيرهم.

تركة ثقيلة  تركتها الحروب المتتالية على العراق تمثلت بآلاف الأرامل والمشردين والنساء اللاتي فقدن معيلهم الوحيد، يتجهن إلى سوق العمل لسد لقمة العيش، ولا يقفون بوجه تحديات كثيرة في ظل مجتمع عشائري مدجج بالتقاليد والأعراف  .

وخلال العشرين سنة الماضية اختفى الآف الرجال ولم يعرف بعد أي أثر لهم تاركين وراءهم عوائل من أطفال وزوجات تتقاذفهم صعوبات الحياة، فبعد 2003 استفحلت عمليات التغييب القسري في العراق وزاد في 2006 أي بعد ثلاثة أعوام من الغزو الأمريكي للبلاد في 2003، ويؤكد مراقبون  إن الفترة الممتدة بين فبراير 2006 ونوفمبر 2008 شهدت أعنف المراحل فقد قتل واختطف آلاف العراقيين دون أن يعلم ذووهم مصيرهم حتى الآن. 

المتحدث باسم مفوضية حقوق الإنسان علي البياتي أشار في حديث خص به الخط الأحمر، أن “هناك  أكثر من 8 آلاف مغيب، اختفوا بظروف غامضة بين من تم اعتقاله على يد تنظيم داعش، وأيضاً هناك أشخاص تم اختطافهم من قبل فصائل مسلحة، ولا يعرف مصيرهم حتى الآن”.

وأضاف أن “هناك إشكالية في عدم وجود قانون يجرم الأجهزة الحكومية التي تقوم بإخفاء الأشخاص وتغيّبهم لسنوات، دون عرضهم على القضاء”.

وتوثّق منظمة  “هيومن رايتس ووتش” عمليات الإخفاء القسري المستمرة على أيدي قوات الأمن العراقية، وفي المقابل لم تفعل السلطات في بغداد وإقليم كوردستان ما يكفي لمعاقبة الضباط والعناصر المتورطين في حالات الإخفاء، بحسب المنظمة. 

الحلبوسي: يجب ان نصارح الناس حول حقيقة المغيبين، فهم مغدورين قتلوا من قبل الميليشيات أثناء إخلاء مناطقهم.

وفي 10 ديسمبر 2022 كان الحلبوسي قد قال في مقابلة متلفزة مع إحدى القنوات المحلية إنه يجب أن “نصارح الناس بحقيقتهم”، وأنه يجب تغيير وصفهم أولاً إلى “المغدورين وليس المغيّبين”، معلّقاً بالقول “مغدورين فارقوا الحياة”، في إشارة إلى المغيّبين الذين قدّرت منظمات حقوقية دولية أعدادهم بعشرات الآلاف، والذين اقتادتهم مليشيات مسلحة بين عامي 2014 و2016، خلال نزوحهم من مناطق القتال إلى جهات مجهولة.

وأثارت تصريحات رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والشعبية، وهو الأول من نوعه الذي يتناول قضية آلاف المغيبين العراقيين، وجاءت بمناسبة الذكرى الخامسة لهزيمة تنظيم «داعش» من المحافظات الرئيسية الثلاث (الأنبار، صلاح الدين، نينوى) ذات الغالبية السنية.

المرصد العراقي لحقوق الإنسان، كان  قد كشف في تقرير تابعه الخط الاحمر عن تقديم 11 ألف عائلة بلاغات بفقدان ذويها خلال 8 أعوام ( 2014 -2022) ، مشيراً الى أنه هناك عوائل لم تبلغ عن فقدان ذويهم، ولم تتخذ الإجراءات القانونية للإبلاغ عنهم، تضع هذه القضية العراق في صدارة الدول التي تشهد عمليات فقدان و تغييب قسري”.

التقرير أشار أيضاً إلى إن “العراق من أكثر البلدان التي شهدت حالات اختفاء وفقدان للأشخاص خلال العقود الخمسة الماضية، ووفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر “يوجد في العراق أكبر عدد من الأشخاص المفقودين في العالم، نتيجة عقود من النزاعات والعنف”

 فيما تقدّر “اللجنة الدولية للمفقودين والتي تعمل بالشراكة مع الحكومة العراقية للمساعدة في استرداد المفقودين وتحديدهم منذ 2016 ، أن العدد قد يتراوح بين 250 ألف ومليون شخص.

غياب سلطة وإهمال 

“الحكومة العراقية لم تبذل جهد حقيقي لمعرفة مصير المفقودين والمختفين قسراً” المرصد العراقي لحقوق الانسان

الحرب على العراق عام 2003، وغياب سلطة إنفاذ القانون وانتشار الجماعات المسلحة والإرهابية، لعبت أدواراً  كبيرة في اختفاء وفقدان عشرات الآلاف من العراقيين خلال العقدين الماضيين، فضلاً عن إهمال الحكومات العراقية الذي ساعد في ازدياد أعداد المفقودين والمختفين بسبب إهمال السلطات لأي شيء يمكنه ملاحقة ومحاسبة الجناة”. بحسب المرصد العراقي لحقوق الانسان 

ورأى التقرير أيضا أن “الحكومات العراقية  لم تبذل جهداً حقيقياً لمعرفة مصير المفقودين والمختفين قسراً، ويدل ذلك على أن ملف المفقودين والمختفين قسراً ليس من أولوياتها ولا يبدو أنه سيكون من أولويات مؤسسات الدولة العراقية نظراً لمرور ثمانٍ سنوات على فقدان آلاف المدنيين دون معرفة مصير أي منهم”. 

الأول عالمياً في عدد المغيبين 

مازال ملف المغيبين والمفقودين في المحافظات المحررة يبدو مجهولاً، بالرغم من مرور سنوات على اختفائهم بظروف غامضة بعد عمليات التحرير التي قامت بها القوات الأمنية والحشد الشعبي، رغم الحراك من جهات سياسية ونيابية واجتماعية من أجل الوصول إلى طريق يمكن من خلاله معرفة مصير هؤلاء الذين تبلغ أعدادهم بالآلاف بحسب إحصائيات مختلفة.

وكشف مدير المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب عمر الفرحان، في تصريح أن “العراق يُصنّف الأول عالميّاً من حيث عدد المغيّبين قسراً على يد القوات الأمنية والفصائل المسلحة والتنظيمات الإرهابية”.

وطالبت الأمم المتحدة إجراء تحقيقات مستقلة وفعالة لتحديد مصير الآلاف من المغيبين والمخفيين، وتحديد الجهات التي تعتقلهم وأماكن احتجازهم، من الذين لا يعرف مصيرهم حتى الآن.

مقابر جماعية 

تحتوي محافظة نينوى على 95 مقبرة، تليها محافظات كركوك (37 مقبرة)، وصلاح الدين (36 مقبرة)، والأنبار (24 مقبرة)’’

منذ الاطاحة بنظام صدام حسين في مايو2003، وردت تقارير عن وجود 270 مقبرة جماعية. وفي 20 نوفمبر من ذات العام أعلن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في لندن، عن إكتشاف 400 ألف جثة في مقابر جماعية،  كما أشارت تقديرات الأمم المتحدة ووزارة الخارجية الأمريكية ومنظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان إلى أن نظام صدام حسين قتل مئات الآلاف من الناس الأبرياء، فضلاً  عن ما قدرته منظمة مراقبة حقوق الإنسان إلى أن عدد العراقيين الذين اختفوا في ظل نظام صدام حسين خلال العقدين الماضيين بلغ 290 ألف عراقي، وذلك حسب النشرة التي أصدرتها المنظمة في الشهر نفسه.  

وشهد العراق منذ الحرب مع إيران في عام 1980 سلسلة من النزاعات. وتقول السلطات إنه بين عامي 1980 و1990، فقد أكثر من مليون شخص لا يعرف مصير غالبيتهم في ظل نظام صدام حسين .

وبحسب الأمم المتحدة ترك تنظيم “داعش” في عام 2017، أكثر من 200 مقبرة جماعية خلفه يعتقد أنها تضمّ ما يصل إلى 12 ألف جثة .

بلغ عدد المقابر الجماعية 346 مقبرة في عموم العراق، بحسب “وزارة شؤون الشهداء” في حكومة إقليم كردستان،  والإحصائية هي للمقابر المكتشفة في الفترة من 2003 ولغاية 2010، وتعود لحقبة تمتد من عام 1980 إلى غاية 2003. 

وفي  6 نوفمبر 2018 وثّقت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، ومفوضيّة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان اكتشاف 202 مقبرة جماعية، تضم رفات آلاف الضحايا الذين أعدمهم تنظيم داعش، خلال سيطرته على ثلث مساحة العراق عام 2014.

التقرير الأممي وثق زمن تلك المقابر، ومواقعها، وأعداد من دُفنوا فيها، وهوياتهم. ففي الفترة ما بين عامي 2014 و2017 وارتكب التنظيم انتهاكات جسيمة و أعمال قد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية ولربما أيضاً إلى مستوى الإبادة الجماعية. وفق منظمات حقوق الإنسان الدولية 

 وحصة الأسد من تلك المقابر كانت محافظة نينوى (95 مقبرة)، تليها محافظات كركوك (37 مقبرة)، وصلاح الدين (36 مقبرة)، والأنبار (24 مقبرة). وفيما تنتظر عوائل الضحايا الكشف عن مصير ذويها، لاتزال السلطات العراقية لا تمتلك سجلاً مركزياً بأعداد المفقودين، أو من تأكد مقتله ووجوده في تلك المقابر الكثيرة، وأكبر تلك المقابر هي مقبرة “الخسفة” في محافظة نينوى.

وتعد قضية المفقودين والمغيبين ومنذ سنوات طويلة، من أكبر التحديات التي يواجهها العراق بعد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين عام 2003، بحسب المعنيين، حيث يواجه المفقودين والمغيبين مشكلات عدة، منها الإخفاء في السجون أو المعتقلات السرية، والتعرض للتعذيب والأذى وغيرها من صور الانتهاكات الحقوقية.