في إحدى المناطق النائية بإقليم كردستان العراق، وخفية عن الأنظار لسنوات عديدة، تدور معركة صامتة بشكل يومي، هذه المعركة لا تُخاض بوسائل عسكرية، بل بأقلام وأوراق تدريس، حيث يقف وراء هذه المعركة مجموعة من المعلمين غير المتعاقدين، المعروفين أيضًا بالمحاضرين المجانيين، إذ تحملوا مسؤولية تنمية عقول الشباب في المنطقة، وعلى الرغم من ذلك، فإن مساهماتهم غالبًا ما تبقى غير معترف بها، ولم يتم تقدير جهودهم بالشكل الذي يستحقونه.يظل هذا الصمت تناقضًا صارخًا مع التأثير الإيجابي الكبير الذي تركوه على التعليم في المنطقة، وبينما تواصل الحكومة في الإقليم عدم الاعتراف بجهود هؤلاء المحاضرين، يجدون أنفسهم في موقف صعب، إذ يواجهون تحديات لا تؤثر فقط على حياتهم الشخصية، ولكن أيضًا على مستقبل التعليم في المنطقة.

الصراع الخفي: 

لفترة طويلة، امتدت لسنوات من الهدوء والتكتم، عانى المحاضرون المجانيون، في إقليم كردستان العراق، من تقلبات غير متوقعة، تلك التقلبات ترتبط غالباً بعدم الاستقرار المالي، والذي يزداد تعقيدًا بفعل غياب أي نوع من أنواع الأمان الوظيفي. هؤلاء المعلمون، الذين تم تجريدهم من مزايا الحماية والضمانات التي يتمتع بها زملائهم المثبتين على الملاك الدائم، يجدون أنفسهم عرضة للتقلبات المفاجئة في دخلهم، مما يؤدي إلى اضطراب حياتهم المالية والمهنية، وهم يعيشون في حالة من القلق المستمر من فقدان وظائفهم فجأة، دون وجود شبكة أمان تساعدهم على التعامل مع هذه الضربات المفاجئة، وهو ما يستمر في التأثير على حياتهم المهنية.

بالإضافة إلى ذلك، يتعذر على هؤلاء (المحاضرين) متابعة الدراسات العليا مثل درجة الماجستير أثناء أداء وظائفهم في المدارس الحكومية، مما يحرمهم من الفرصة للنمو المهني وتطوير مهاراتهم، وفيما يتعلق بإجازة الأمومة، يقتصر حق المحاضرات المجانيات على 21 يومًا فقط، بينما يتمتع زميلاتهن المعلمات المثبتات على الملاك الدائم بإجازة أمومة تمتد لمدة 6 أشهر. 

وما يُعقِّد وضع المحاضرين المجانيين أكثر هو أن بعضهم تحملوا هذه المحنة لمدة تزيد عن عقد من الزمن، اعتبارًا من عام 2021 وما بعده، تم تطبيق نظام رواتب ثابت حيث يتقاضى المحاضرون المجانيون الأقل أجرًا راتبًا رمزيًا يبلغ 200 ألف دينار عراقي (حوالي 133 دولار أمريكي اعتبارًا من أغسطس 2023). وبالنسبة للمحاضرين الذين يحملون درجة الماجستير ويتقاضون أعلى أجر، فإن راتبهم يصل إلى 425 ألف دينار عراقي (حوالي 283 دولار أمريكي اعتبارًا من أغسطس 2023). 

وما يزيد من صعوبة الأمور هو أن بعض هؤلاء المحاضرين لم يتسلموا هذه الأجور الزهيدة إلا كل شهرين أو أكثر نتيجة للمشاكل المالية التي تواجهها الحكومة.


نظام منهار وسلسلة من الأسباب


تعود جذور هذه المشكلة إلى الفترة الزمنية المحورية في عام 2014، حيث اندلع هجوم داعش وفرضت الحكومة العراقية تخفيضات كبيرة على الميزانية، وكان هذا الوقت منطلقًا لسلسلة من الأحداث التي أثرت بشكل كبير على الوضع التعليمي، خلال تلك الفترة العصيبة، توقف التوظيف المنتظم للمعلمين فجأة، مما أسفر عن ظهور أزمة في القطاع التعليمي، ومع مرور الوقت، قدمت حكومة إقليم كردستان ثلاثة أسباب رئيسية لعدم قدرتها على توظيف هؤلاء المعلمين.

السبب الأول كان تخفيض الميزانية المخصصة للإقليم من قبل الحكومة العراقية، مما أدى إلى أزمة مالية حادة ألقت بظلالها على قدرة الحكومة على توظيف معلمين جدد، في نفس الوقت، استمرت الحرب ضد داعش وأثرت بشكل كبير على الوضع الأمني والاقتصادي، مما زاد من تعقيدات قضية التوظيف،

لجعل الأمور أكثر تعقيدًا، جاء تفشي جائحة كوفيد-19 غير المتوقعة وأثر على الوضع بشكل سلبي، مما أدى إلى تراجع حكومة إقليم كردستان عن التوظيف وزاد من عدم اليقين بشأن حل المشكلة بسرعة.

أرقام متصاعدة : موجة متفاقمة من المعاناة والالتزام 

يُروى جزء من قصة هؤلاء المحاضرين من خلال الأرقام المتغيرة، وهي ملحمة تحكي عن النضال والاجتهاد، ففي عام 2017، كان هناك ما يقرب من 11 ألف معلم محاضر يعملون في القطاع العام، ولكن مع مرور الوقت، شهدت الأرقام تغييرًا جذريًا. حيث وصل عدد المحاضرين في عام 2023 إلى حوالي 36 ألف محاضرًا، مما يمثل نسبة كبيرة تبلغ 25% من مجموع معلمي القطاع العام، هذه الأرقام تتجاوز المعقول، إنها ترمز إلى آمال المحاضرين الذين شغلوا مواقع حراس صامتين للتعليم لمدة عقد أو أكثر، وواجهوا تحديات مهنية متعددة.

يظهر جانب آخر من هذه الحكايات الشخصية للأفراد الذين تعايشوا مع هذه التجربة بشكل مباشر، نأخذ قصة جوران كمثال، الذي كان محاضراً لست سنوات، حيث يروي كيف رفض العمل في المؤسسات الخاصة والمدارس الاهلية مرارًا وتكرارًا، حتى عندما عُرضت عليه رواتب أعلى، لأنه شعر أن طلابه في القطاع العام يحتاجون إليه أكثر، ورغم تفانيه الكامل في المساهمة في تقدم التعليم في كردستان، تم حرمانه من المشاركة في برنامج تدريب المعلم التربوي الذي تقدمه وزارة التربية والتعليم على أساس أنه محاضر فقط، وبحسب وزارة التربية والتعليم، فإنه لا يسمح لهؤلاء المعلمين أو المحاضرين المجانيين بالمشاركة في مثل هذا التدريب.

الأثر المضاعف على التعليم و المجتمع 

تأثير هذه المعضلة يتجاوز نطاق المعاناة الفردية، حيث يمتد هذا التحدي ليشمل مستقبل التعليم في إقليم كردستان العراق. إنه يلامس التعليم والمجتمع بشكل مباشر، ومع تلاشي معاناتهم خلف الكواليس، فإن جودة التعليم تواجه تحديات خطيرة، وعدم وجود الأمن الوظيفي يشكل تهديدًا للدافع الذي يحافظ على هؤلاء المحاضرين في مجال التعليم، ومع التقلبات المستمرة في المشهد، فإن حتى الأساتذة الموهوبين قد يبحثون عن خيارات أخرى، مما يترك فجوة كبيرة في المجال التعليمي – فجوة تحمل عواقب أكبر بكثير من مجرد أرقام.

تجلب هذه الوضعية جوًا كئيبًا إلى المدارس، حيث يسود الغموض حول وظائف المعلمين غير المتعاقدين، وترتبط مخاوف بأن وظائفهم قد تكون في خطر في أي لحظة، مما يثير قلق المدارس بشكل كبير، إضافةً إلى ذلك، تساهم هذه التغييرات المستمرة، مثل تقلب موظفي المدرسة الذين يبحثون عن فرص أفضل، في تفكيك البيئة التعليمية المستقرة التي يحتاجها الطلاب، حيث تؤدي هذه العوامل إلى تعثر عملية التعلم التي تعتمد على كل من التوجيه الدقيق والتقدم الثابت، وبمجرد أن يقرر المحاضرين مغادرة المدرسة، تتعرض القاعات الدراسية التي كانت سابقاً تعج بالإلهام إلى التقلب والغموض، مما يضر الطلاب ويؤثر سلبًا على رحلتهم التعليمية بسبب هذه الفوضى.

صراع التثبيت وديناميكيات النوع الاجتماعي 

في إطار مواجهتهم لهذه التحديات، اتخذ المحاضرون خطوةً تلقائية بدلاً من الاكتفاء بالانتظار، حيث  قاموا بتنظيم اعتصامات وإضرابات متصاعدة و متكررة كوسيلة للضغط وللتعبير عن إحباطهم المستمر ومطالبتهم بالعدالة، وبينما يستخدمون هذه الوسائل للتعبير عن قلقهم ومطالبتهم بالتثبيت على الملاك الدائم، إلا أنها تأتي بعواقبها الخاصة، إذ يتسبب كل يوم من أيام الإضراب في فقدان ساعات تعليمية قيمة للطلاب، وتسلط هذه الواقعة الضوء على التوازن الحساس بين الاحتياجات الفورية والأهداف ذات المدى الطويل، مما يؤكد على الحاجة الملحة لمعالجة الوضع الذي يواجهه هؤلاء المعلمين.

ما لفت الانتباه بشكل خاص هو أن مجتمع المعلمين غير المتعاقدين أصبح مكانًا حيث تلعب ديناميات النوع الاجتماعي دورًا كبيرًا دون أن يكون هذا واضحًا بشكل كبير، فغالبية المعلمين غير المتعاقدين هم نساء، وهذا ليس صدفة بل يعكس الأنماط المعقدة في المجتمع الكردي، في هذه الثقافة، غالبًا ما تنظر العادات التقليدية إلى الرجال على أنهم المعيلين الرئيسيين، مما يجعل العديد منهم يسعون إلى البحث عن فرص عمل بأجور أفضل، وهذا التغيير يؤدي إلى ازدياد نسبة النساء اللاتي يشغلن هذه المناصب غير التعاقدية.

الدعوة و التوجه للأمام

في عام 2017، اتحد مجموعة من المحاضرين المجانيين لتأسيس رابطة المحاضرين المجانيين، إدراكًا منهم للفائدة التي تأتي من التعاون المشترك، وظهرت هذه الرابطة كوسيلة لتعزيز طموحات المحاضرين المجانيين وتقديم منصة للتعبير عن مخاوفهم وتيسير التواصل مع الجهات الحكومية للتصدي للتحديات التي واجهوها، قامت هذه الرابطة بالتفاوض مع حكومة إقليم كردستان عدة مرات، وأكدت بشكل مستمر على التحديات الطويلة الأمد التي واجهها هؤلاء المحاضرون المجانيين.

تم تشكيل لجنة مشتركة تضم وزارة التربية والتعليم ووزارة المالية والاقتصاد في حكومة إقليم كردستان بهدف تقييم الوضع الحالي، وقامت هذه اللجنة بجمع البيانات المتعلقة بعدد المحاضرين المجانيين والعبء المالي المحتمل على الحكومة في حال تعيينهم بشكل رسمي، وقد تم رفع نتائج عمل اللجنة إلى مجلس الوزراء، ولكن لم يتم اتخاذ قرار نهائي حتى الآن، وأعلنت رابطة المحاضرين المجانيين أن صبرهم بدأ ينفد وأنهم “سيتخذون إجراءاتهم إذا لم تلبي الحكومة مطالبهم”.