بعد قصة دراماتيكية مليئة بالدماء والدموع منذ تشرين الأول من عام 2019، وبعد المسيرات والتجمّعات الحاشدة في 8 محافظات في وسط وجنوب العراق، تصاعدت تدريجياً بشكل بطيئ أصواتٌ تقول بوجوب تنظيم الاحتجاج، ومن ثم وصلت لمستوى النصيحة بالتنظيم على مستوى سياسي، لكون الأفق الحكومي الحالي مسدوداً أمام الإصلاح وأمره ميؤوس منه بعد إن حصل ما حصل من القمع غير المسبوق مطلقاً، فاتجه النظر إلى تشرين بأن تنتقل للعمل السياسي وتفرض حلول أسئلة الشارع ومطالبه. وهكذا استقر عموم الرأي العام رغم وجود من يعارضه بنسبة غير مؤثرة، على الاستمرار بمبادرة التنظيم الذاتي والخروج من سيطرة شعار “الوعي قائد” إلى قيادة النخبة، نخبة تمثل قيم جماهير تشرين ومطالبها، فظهرت تنظيمات بعضها اجتماعية تنظيمية صرفة وأخرى سياسية في هدفها الأخير، وقد سمّيت هذه وتلك بالحركات والتجمّعات.

تشرين في حلتها الجديدة

بدا أن الرأي العام قد استقر على الأخذ بمبادرات التنظيم بعد أن أوقفها فيروس كورونا في الأول من آذار عام 2020، والذي دخل العراق أواخر شباط من العام نفسه، وقد استحكم في خلد الكثير من المحتجين أنه قد حان العمل على مستوى آخر بسبب انسداد الحل الحكومي واستعصائه أمامهم، وهو ذات السبب الذي جعل الكثير يتراجع عن دعمه وييأس من الحل، لذا مبادرة التنظيم السياسي هي جواب لليائسين وتوجيه لليأس على أن يكون يأساً من السلطة الحالية وليس يأساً مطلقاً يقف بوجه نوايا ومساعي الإصلاح من قبل المحتجين وهم في حلتهم الجديدة يطلبون السلطة لتحقيق مطالبهم.

ظهرت التجمعات الاجتماعية قبل السياسية بزمن طويل نسبياً، ربما كان السبب فيما يبدو هو مقبولية الانتظام الاحتجاجي أكثر من الانتظام السياسي الصرف، والأخير يحتاج لزمن كي يهضم ويتقبّله الجمهور المنتفض والخارج من مأساة تاريخية والواصل لحدود العجز أو اليأس مع هدره كل قوته وحلوله الممكنة تجاه السلطة الحكومية الماثلة.

كان أول ما انطلق هو “الاتحاد العراقي للعمل والحقوق” بتأريخ العشرين من أيار عام 2020 برئاسة الناشط البارز أيّاد حسن أحد أبرز محتجي ساحة التحرير ببغداد، وقد ابتدئ الاتحاد بطرح أجندته وبرامجه وتنسيقاته على أرض الواقع مع مرور الزمن وأخذ يتشكّل ويتحكم شيئاً فشيئاً، وكانت رؤيته التعريفية في منشوراته التي حصلت الخط الأحمر على نسخة منها تقول: “‌‎تنطلق فكرة هذا الاتّحاد من قيمة الأمل في القضية العراقية، والبحث عنها في المجتمع وطبيعة علاقاته، ومن فكرة الجماعة المغايرة التي من الممكن أن تتشكّل من خلال مآسي الجماعات القديمة والتي تتبنى مواقف مغايرة تنطلق من المصلحة العامة المرتبطة بمصالح الأفراد. تتبنّى هذه الجماعة المواقف الوطنيّة وتنظّم عملية الاحتجاج، وتركّز على مفهوم “الأمّة العراقية” التي تضمّ كلّ شعوب الوطن”. الجماعة المغايرة والأمة العراقية ركيزتان أساسيتان تعطي للاتحاد زخماً تشرينياً عالي المستوى وشرعية اجتماعية. الجماعة المغايرة تعني استئناف تمثيل المحتجين واحتوائهم، كما تعني الأمة العراقية تجاوز التقسيمات الطائفية والعرقية المعهودة في الاجتماع السياسي العراقي، هذا التجاوز يضفي شرعية على عمل الاتحاد بوصفه غاية ما يطمح إليه وينشده.

وثاني التنظيمات هو تجمع “نگدر”، أسس في السابع عشر من حزيران عام 2020 برئاسة الإعلامي المعروف علي جواد، وضمّ الكثيرَ من المحتجين وعمل هذا التجمّع على مبادرات اجتماعية تكلّلت أخيراً بتثبيت موقفه الوسطي بوصفه يمثّل صميم رؤيته إذ يرى التجمّع بلسان محمد الدعمي أحد مؤسسي التجمّع في تصريح للخط الأحمر “أنّ المواجهة مع أحزاب الفساد يجب أن تتنوّع بين معارضة سياسية من داخل البرلمان وبين معارضة ميدانية من خارجها، وهذا ما يسرّع من كسب النتائج”، بينما الاتحاد العراقي رغم عدم مشاركته بالانتخابات حاله حال هذا التجمّع، فهو كان من الممكن أن يدخل الانتخابات لكنّه لم يدخلها لسبب ما، بمعنى أنَّ تجمّع “نگدر” غير سياسي بالمرة بينما الاتحاد العراقي سياسي وغير سياسي، يعمل بالجانبين عندما تسمح له الفرصة.

القوى السياسية المنبثقة

لاحقاً، وصلت تشرين مرحلة أكثر جرأة وصراحة فيما يخص التنظيم، وقد حان دور تشكيل قوى هدفها سياسي رغم أنها لا تريد خسارة دورها الاجتماعي، فأخذت وصف الحركة، وظهرت أربع قوى. أولها، حركة امتداد، ثانيها، حركة نازل آخذ حقي، وثالثها إشراقة كانون، ورابعها، حزب البيت الوطني، واللافت بالأمر أن من سمّى نفسه بالحركة قد أقبل على الانتخابات مباشرة بدون تأنٍ، بينما البيت الوطني الذي اقتصر على كونه حزباً قد نأى بنفسه عن المشاركة بالانتخابات وعمل على الضغط من خارج العملية السياسية. فوصف الحركة يتضمّن العمل السياسي وغير السياسي، بينما الحزب يمثّل العمل السياسي فحسب.

أعلنت حركة امتداد عن نفسها في مؤتمرها التأسيسي الأول الذي عقد في مدينة السماوة بتاريخ الخامس عشر من شباط عام 2021، وقد انتخب علاء الركابي أميناً عاماً للحركة وهو ناشط ميداني بارز في انتفاضة تشرين، وبعد يومين أجرى حزب إشراقة كانون مؤتمره التأسيسي الأول وقد انتخب سعد جعفر عزيز الأسدي أميناً عاماً للحزب.

وأجرت حركة نازل آخذ حقي مؤتمرها التأسيسي الأول في السادس والعشرين من حزيران لعام 2021 تحت أضواء الإعلام كما فعلت حركة امتداد، وانتخب مشرق الفريجي أميناً عاماً للحزب، وأخيراً، بعد طول انتظار لظروف مختلفة، أجرى حزب البيت الوطني مؤتمره التأسيسي الأول يوم الرابع من أيلول لعام 2021 وتم فيه انتخاب الناشط البارز حسين الغرابي أميناً عاماً للحزب.

الرؤى والمطامح

كان من ضمن مطالب تشرين الرئيسية هي الانتخابات المبكرة، ورغم أنّها قد أجلّت عن موعدها الأول والمقرر في السادس من حزيران لهذا العام الأمر الذي شكك بمفهوم كونها مبكرة فقد كانت محط ترحيب من قبل ثلاثة قوى سياسية، هي امتداد وإشراقة كانون ونازل آخذ حقي، وسرعان ما كثّفت جهودها ومساعيها للإعداد من أجل السباق الانتخابي، وباركها تجمع “نگدر” بينما قاطع الاتحاد العراقي للعمل والحقوق والبيت الوطني الانتخابات لأسباب مختلفة.

إنّ الاختلافات واسعة بين هذه القوى ولا تقتصر على أمر الانتخابات، وإلا لما تعددت، أو لصار التعدد غير ذي معنى. وقد خصَّ الخطَّ الأحمر عضو الأمانة العامة والمكتب السياسي بحركة امتداد مصطفى حامد بحديث حول رؤية حزبه وقال مجيباً عن مبرّرات تشكيل الحركة “احتجاجات تشرين سبقتها مقاطعة شعبية للانتخابات، وهذا مؤشر واضح على رفض الطبقة السياسية وطريقة وصولها للسلطة. وكانت أبرز مطالب المتظاهرين انتخابات مبكرة بنظام انتخابي عادل ومفوضية جديدة وتطبيق صارم لقانون الأحزاب، وهي تبين الرغبة الجدية لعامة المواطنين بنبذ الطبقة الحزبية والبحث عن بديل سياسي بنهج مختلف”، ويرى أنَّ الاختلافات بين الأحزاب تقتصر على البرامج حالياً، لأنها لم تفعل شيئاً يصحُّ تقييمها عليه، لكونها أنشئت توّاً، ويصف امتداد بأنّها “تتميز بوضوح الرؤية لمستقبل هذا النظام ونهايته، فقد شخّصنا أنّ الخلل يكمن في هيكلية النظام وشخوصه معاً، وأنّ الحل الأمثل بعد توفر البديل هو إصلاح هذا الخلل وبطرق قانونية لتحويل نظام انتخاب الرئيس بشكل مباشر من قبل الشعب لتلافي انقسام السلطة وتشضٌي مراكز القرار الذي أنتج فوضى سياسية كبيرة وانسداد في الأفق السياسي”.

إما حزب البيت الوطني فلقد اعتمد على مفهوم الأمة العراقية لتجاوز الطائفية، وعدم اقتصار الحزب على أبناء الجنوب أو الوسط، بل يشمله للمحافظات الغربية وحتى إقليم كردستان فقد صرح عضو الأمانة العامة أنمار آل عمر للخط الأحمر قائلاً “اليوم للبيت الوطني تمثيل حقيقي في أكثر من 15 محافظة عراقية، تمثيل حقيقي لا وهمي كما تفعله الأحزاب القائمة بجلب شخصيات بسيطة من هويات فرعية لغرض الترقيع وادعاء التمثيل لمكوناتها في أحزابهم”

وأشار آل عمر إلى منهجية التفكير لدى الحزب “نعتقد أن ما يميّز البيت الوطني في هذه المرحلة هو المبدئية ،المبدئية التي أفرزت الجبهات. وبالفعل طبّقنا ذلك عملياً في كل المواقف ومنها الانتخابات ومشروع المعارضة” وأضاف “نعتقد أن المبدأ في العمل السياسي (الغائب لدى أحزاب هذا النظام) مهم جداً في هذه المرحلة ويأتي قبل حتى الميزات الأخرى مثل الوضوح والشفافية والهوية الوطنية الجامعة والتي دعينا لها ممثلة بالأمة العراقية، وتغييب الهويات الفرعية الاخرى”

هذه هي المبادئ المنهجية الكامنة خلف موقف المقاطعة، ويتابع آل عمر في حديثه “نؤمن بالديمقراطية الحقيقية لا المشوّهة، والنظام الحالي بمضمونه القائم ليس ديمقراطياً بظلّ وجود المال السياسي والسلاح المنفلت والدعم الخارجي، حتى أصبحت الانتخابات ممارسة روتينية مفرغة من محتواها الأهم وهو توزيع مراكز القوى بين تيارات وحركات ناشئة جديدة وأحزاب الحاكمة، فأصبحت الانتخابات أداة لإنتاج الأزمات والفوضى لا الحلول، فكانت المقاطعة فعلاً احتجاجياً وعقابياً لتحسين ظروف الانتخابات حتى يتسنى لنا بالقادم الدخول فيها والتغيير من داخل أروقة العمل السياسي”.

وأعلن البيت الوطني مقاطعته للانتخابات بيوم مقتل الناشط المدني البارز إيهاب الوزني المصادف التاسع من حزيران لهذا العام، مما دعى الكثير من المتابعين لأن يعتبر ذلك حجة مناسبة لتبرير المقاطعة وأن السبب الحقيقي هو عدم جاهزية الحزب لدخول الانتخابات أو أنه كان متردداً بين المشاركة والمقاطعة بنحو يعجز عن كسب جماهيره بموقفه، لكن القيادي بالبيت الوطني هشام الموزاني نفى ذلك بوضوح في حديث مقتضب للخط الأحمر “مشاركتنا ترتبط باشتراطات العملية السياسية. البيئة المقبولة للانتخابات ستكون هي الفاصل بين المقاطعة والمشاركة، اشتراطات الأمن الانتخابي وتمويل الأحزاب الشفّاف”.

فوبيا العلمانية

وبصدد الجواب حول مرجعية امتداد الفكرية قال مصطفى حامد للخط الأحمر “على الصعيد السياسي تؤمن امتداد بمدنية الدولة والفصل الواضح للدين عن السياسة، وعلى الصعيد الاقتصادي فبرامج الحركة أقرب الليبرالية الاجتماعية، وبمنظور عام تعتبر امتداد من الحركات التقدمية”، وفي جوابه على معنى المدنية التي شاع استخدامها بعد الربيع العربي كظل للعلمانية بدلالة مخففة تستسيغها الأوساط العامة قال “العلمانية ذات أثر أعمق في عزل الدين وتقنينه في كل مناحي الحياة، لا ننكر دور العلمانية في مرحلة ما من تاريخ العالم وأوروبا بالتحديد بالانتقال إلى شكل الدولة الحديثة، لكنها مرحلة من التاريخ فقط وكانت ردة فعل قوية على تغول الكنيسة ورجال الدين. أما الآن فنرى الحزب المسيحي مثلاً على رأس ائتلاف حكومي في المانيا بعد ترسيخ مفهوم الحرية والديمقراطية”، ويؤكد “نعتقد أنّ عزل الدين عن السياسة هو الأهم في واقع الدولة بالعراق ولا يتعداه إلى مفاهيم أخرى”.

يُستخلَص من الرؤية أنّ حركة امتداد علمانية مخفّفة لا تريد الاصطدام بجمهورها، لكن ذلك لا يعني أنّها مرغمة، بل ثمّة ما ينسجم مع ذلك من داخل رؤيتها، وهو أنّها تأخذ من الديمقراطية الاجتماعية نهجاً اقتصادياً ومعروف عن هذا المنحى تعديلاته المستمرة على الأصل الليبرالي ذي التوجه الرأسمالي الحاد.

وقال محمد الدعمي بحديثه للخط الأحمر “انطلقنا وأمامنا تجربة لـ 18 عاماً عشنا بعضها ورصدنا الآخر وحلّلنا وقيّمنا التجربة، فتوصّلنا إلى أنّ المجتمع بحاجة إلى “بناء داخلي على المستوى الفردي” وإلى “فئة متصدية تقويمية لا تقويضية” تأخذ على عاتقها رصد وتصحيح المسار الاجتماعي والسياسي بالآليات الديمقراطية من غير أن تطرح نفسها بديلاً”، ويجيب حول المرجعية الفكرية للتجمّع بالقول “نعتقد أنّ العلمانية نظرياً لها أكثر من تعريف، وأنّ العلمانية تطبيقياً مختلفة من دولة لأخرى، ففرنسا دولة علمانية والولايات المتحدة دولة علمانية كذلك، تمنع فرنسا النقابَ في الأماكن العامة والولايات المتحدة تبيحها! لذلك لا نستطيع أن نقول نحن مع العلمانية المطلقة، بل نقول نحن مع العلمانية المشروطة”.

تجمع نگدر كحركة امتداد لا يتبنيان العلمانية بإطلاقها أو لا يصفان منطلقها بالعلمانية فحسب، وإنّما يضعان شروطاً عليها، فهي مدنية عند امتداد وعلمانية مشروطة عند نگدر، هل يعبّر ذلك عن خوف عميق من المصطلح له جذور اجتماعية راسخة؟ أو هو التفاف مفهومي عليه؟ أو هو لعبة مصطلحية لإزاحة الريب بشكل مقصود لا أكثر؟ لعل الجواب يكشفه المستقبل.

حصيلة ختامية

جرت الانتخابات في 10 تشرين الأول من العام الحالي، نالت امتداد 9 مقاعد، وإشراقة كانون 5 مقاعد، بينما لم تفلح نازل آخذ حقي بالحصول على مقعد، كما استمرت عمليات هيكلة الأحزاب والتنظيمات التشرينية بعد الانتخابات، وتوجه النظر إلى ضرورة تشكيل حكومة أغلبية وطنية تحتل الأحزاب التشرينية فيها موقف المعارضة بخلاف العادة جيث حكومة توافقية يشترك فيها الكل بحسب مقاعده، لكن ما عقّد الأمر هو أنّ تلك الحركات التشرينية الفائزة ستضطر للعمل برفقة بعض أحزاب النظام القائم مما قد يعرض وعودها التي قطعتها على نفسها في سعيها لكسب شرعيتها للاهتزاز بنظر جمهورها. لكن الوقت كفيل بمعرفة ماذا سيحدث بعد تشكيل حكومة الأغلبية. كما أن البيت الوطني يبدو قد دخل حالة السبات، فلا نشاط له فيما أعلنه كمشروع خاص به وهو المعارضة الخارجية وفي حديثه للخط الأحمر تجنّب هشام الموازني قول أي نقد تجاه الأحزاب التشرينية المنافسة واعتبر أنّ مهمة البيت الوطني تتكامل معها فيرى الأحزاب الفائزة تختلف عن قوة النظام التي ستشاركه بالمعارضة “لكل منهما نعتقد مساره الخاص، بل نضيف المعارضة من خارج البرلمان أيضاً” وهو أمر يبدو يعزز ما عرف بصدمة المقاطعين بعد أن شاهدوا صعود امتداد وإشراقة كانون بينما كانوا يعتقدون بحتمية عدم الفوز مما جعل الخطاب لاحقاً يقلّل من حدّته ويقدّم تعزيزات غير مباشرة كهذه.