لا يزال الوصول إلى خدمات الصحة النفسية يمثل عائقاً كبيراً أمام ملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم ، وخاصة أولئك الذين يعيشون في المناطق المحرومة. ومع ذلك ، أخذ منتظر حميد الثويني، صيدلي يعمل في مستشفى حكومي، الأمور على عاتقه من خلال بدء تطبيق علاج يهدف إلى مساعدة الأشخاص الذين يعانون من تحديات الصحة العقلية. يهدف منتظر لتقديم خيار أكثر ملاءمة وبأسعار معقولة للأشخاص الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف خدمات المعالجين التقليديين إن وجدوا. أثرت فكرة منتظر المبتكرة بشكل كبير على حياة العديد من الأفراد حتى الآن ، حيث وفرت لهم إمكانية الوصول إلى جلسات العلاج عند الطلب من منازلهم. مشروع منتظر المؤثر جدا شهادة على قوة الشغف والتصميم لإحداث تغيير إيجابي في المجتمع.

وأوضح منتظر أن الظروف السياسية المعقدة التي تعيشها الدولة العراقية منذ تأسيسها قبل أكثر من قرن وحتى الآن تسببت في ارتباك وعدم استقرار لتكون الحالة السائدة في المجتمع. عدم الاستقرار يخلق ثقافة تتجاهل رفاهية الحياة وضرورياتها”. الصحة النفسية من أهم الضروريات الغائبة في ثقافة المجتمع. لذلك يعتقد المؤسس أن الحل يكمن في تطبيع المفهوم في البداية.

يتجسد ماضي العراق في موجات المزاج المرعبة وتدهور الصحة النفسية على مر السنين. وصل الأمر إلى نقطة بدأت فيها بعض الجماعات الدينية بالتحذير من أي شعور بالفرح بسبب الكارثة المحتملة التي تعقبها ، بحسب منتظر.

هناك عامل آخر يجعل المرض العقلي أكثر شيوعًا وأقوى ، وهو زواج الأقارب. كما هو معلوم فإن العديد من الأمراض العقلية لها أساس وراثي بالإضافة إلى أساسها المكتسب ، وتتركز الأمراض النفسية الجينية وتزداد احتمالية ظهورها في حالة زواج الأقارب على سبيل المثال.

إن الظروف الرهيبة في العراق بالإضافة إلى زواج الأقارب المشترك تعني أمراضًا وعقيدات عقلية هائلة ومروعة. تتطور هذه المجمعات بسرعة وتشكل المزيد من القضايا الصحية العامة نتيجة لثقافة العار من العلاج والتدخل النفسي.

لماذا تطبيق بوح :

كانت هنالك مجموعة من الدوافع التي حثت منتظر على اطلاق التطبيق بعضها شخصية واخرى موضوعية “انتحر صديقي احمد بعد صراع مع الاكتئاب دام لمدة عشرة سنوات”. كان والدي احمد يشعرون بالخجل من مراجعة الطبيب النفسي خوفا من الوصمة الاجتماعية. الصدمة النفسية دفعت منتظر إلى ثورة فكرية للتنقيب عن سبب فقدانه لصديقه. لذا بدأ منتظر بمجموعة من الأسئلة: ما هي الأسباب؟ وماهو الحل؟ والنتيجة هي العلاج النفسي من دون هوية أو أسماء. وهكذا يهدي منتظر مبادرته إلى صديقه الراحل تكريماً لذكراه.

يلخص منتظر اسباب اهمال الصحة النفسية عاملين هما الوصمة الاجتماعية والفقر. ويعالج هذه المشكلات بواسطة تطبيق بوح باستخدام أسلوب العلاج عن بعد الذي يحل مشكلة الوصمة الاجتماعية. لاسيما أن المتقدم لطلب الإرشاد او العلاج يدخل بصفته مجهول الهوية. ويقدم الجلسات مرشدين نفسيين مدربين من الحاصلين على شهادات في علم النفس  بصفة متدربين لحل مشكلة الفقر.

أصبحت تطبيقات العلاج شائعة بشكل متزايد في أوروبا والمملكة المتحدة وأمريكا الشمالية ، مع العديد من المبادرات التي تهدف إلى تحسين خدمات الصحة العقلية. في أوروبا ، من الأمثلة على ذلك تحدي رقمنة علم النفس ، الذي يشجع الابتكارات التكنولوجية في علاج الصحة العقلية. تلقى التحدي أكثر من 100 طلب منذ بدايته ومنح منحًا للمتقدمين الواعدين. في المملكة المتحدة ، حقق تاك بيس نجاحًا ملحوظًا من خلال توفير خدمات العلاج عبر الإنترنت التي يمكن الوصول إليها لأي شخص لديه اتصال بالإنترنت. ربطت منصتهم بين أكثر من مليون مستخدم ومعالجين مرخصين ، وقد اشتركوا مؤخرًا مع خدمة الصحة الوطنية (NHS) لتوفير العلاج المجاني للعاملين في مجال الرعاية الصحية أثناء وباء كورونا. في أمريكا الشمالية ، يعتبر بتر هلب لاعبًا مهمًا آخر في مساحة العلاج عبر الإنترنت ، حيث يربط أكثر من مليون مستخدم بمعالجين مرخصين من خلال موقعهم على الويب وتطبيقهم. أظهرت تطبيقات العلاج هذه إمكانات هائلة في جعل علاج الصحة العقلية أكثر سهولة ويسر.

جدوى المعالجة:

يعد التشخيص أول خطوة بعد بناء الثقة بين المراجع والمعالج في العلاج النفسي، وللتوصل لتشخيص دقيق يحتاج المعالج لمجموعة خطوات تحقق الوصول الى التشخيص الدقيق. من هنا باتت طريقة العلاج خلال الانترنت تواجه سؤال الجدوى؟ يجيب المختص بالطب النفسي محمد مهدي مناخور: “إن العلاج عبر الانترنت طريقة ناجحة جداً”، وذلك لأنها تتجاوز الوصمة الاجتماعية  وبهذا تستقطب اعداد كبيرة من المحتاجين للخدمات النفسية ممن يسهل تقديم الخدمات لهم من دون الحاجة الى بنى تحتية معقدة وباعداد كبيرة.

 وبالمقارنة بين الواقع النفسي في الولايات المتحدة والعراق فهناك ما يقدر بـ 106500 من علماء النفس المرخصين في الولايات المتحدة ، مما يجعل النسبة المئوية للفرد حوالي 33.9 من علماء النفس لكل 100000 نسمة بحسب .  أما الوضع في العراق فهو اسوء من ذلك بكثير. اذ لا يوجد سوى 80 طبيبا نفسيًا ممارسًا في العراق وكردستان العراق ، يعملون جنبًا إلى جنب مع عدد محدود من الأطباء النفسيين المبتدئين ، وفقًا لتقرير اعده مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية ومركز تمكين السلام في العراق في عام 2017.

 يكمل محمد حديثه عن الجدوى حيث “لا يحتاج فيها المريض سوى من يستمع له عند التعبير عن مشاعره بالكلام في أغلب الحالات النفسية وخصوصاً في بداياتها “، مما يساعد المعالج على علاج الحالات البسيطة والمتوسطة من الاكتئاب. 

ماذا حقق التطبيق؟

بعد مضي نحو ثلاثة أشهر من انطلاق المبادرة، قام أعضاء فريق تطبيق بوح بتقييم النتائج التي حققوها. ” خلال ثلاثة أشهر من افتتاح التطبيق، كان عدد الجلسات والمستخدمين قد ارتفع بشكل جنوني” يقول منتظر بابتسامة عريضة. ويكمل “يوماً بعد يوم نكتشف مدى حاجة أفراد المجتمع لمثل هكذا تطبيق”، إذ بلغ عدد الجلسات عبر الانترنت حوالي ألف جلسة مع ثلاثة آلاف مستخدم. ويبدو أن مؤشر استخدام التطبيق آخذ بالازدياد، حيث تفضي البيانات التي حللها فريق التطبيق إلى أن هنالك فئات  عمرية و جندرية مختلفة. اذ ان معظم رواد التطبيق من النساء ممن تتراوح اعمارهن بين (18-34) سنة. وقد تعرض معظمهن للعنف الاسري أو التحرش أو التنمر، وكثير منهن قد تعرضن لعنف جنسي من قبل الأب أو الأخ. ويخشين هؤلاء الضحايا فضح ابائهن أو إخوانهن لكونهم (أي الأب أو الأخ) قد هددوهن بالقتل بدعوى جرائم الشرف وغسل العار في حال كشف الأمر. بينما بلغ ما نسبته ربع مستخدمي التطبيق من الذكور والذين تنوعت حالاتهم ما بين تعرضهم للتحرش الجنسي أثناء الطفولة، التنمر، الإدمان، اضطراب الهوية الجنسية أو الخوف من كشف ميولهم المثلية والذي ستكون عاقبته قتلهم من قبل قوى المجتمع المهيمنة كالعشيرة مثلا. 

 نجح تطبيق بوح لغاية الان في إقناع ثلاث فتيات بالعدول عن الانتحار، بحسب منتظر. كما وخلق المعالجون قنوات تواصل بين العديد من الفتيات ومنظمات حقوق المرأة  من أجل إيجاد الملجأ المناسب لهم. 

VIAمحمد عبد الرضا - باحث من العراق