تركيا تخطئ الهدف في كردستان العراق وتواجه رداً عنيفاً

في صباح الثامن من نيسان 2023، هطلَت أمطار غزيرة على السليمانية، وحملت الرياح الخفيفة غيوماً من الرمال المغبرة مثل نذير شؤم. كان الهواء ثقيلاً والجبال المحيطة غير مرئية. مع ذلك، سارت الحياة بشكل طبيعي في المدينة، رغم تباطؤها قليلاً في الأسبوع الثالث من رمضان. في ضواحي عاصمة المحافظة، وتحديداً في المنطقة المحيطة بمطار السليمانية، كان الوضع هادئاً، وأقلَعت رحلة إلى المدينة المنورة في موعدها المحدد في المساء. ما كان أحدٌ ليتخيل أنّ عملية عسكرية قد حدثت هنا في اليوم السابق. 

«قصف جوي»، «قنبلة تحطّ على بوابة»، أو «صاروخ إيراني»… سرعان ما انتشرت الشائعات قبل أن ترد في المساء تفاصيل ما حدث: مظلوم عبده، المعروف أيضاً باسم مظلوم كوباني، القائد الأعلى لقوات سوريا الديمقراطية (وهو ائتلافُ ميليشياتٍ كرديّة سوريّة)، وإلهام أحمد، الرئيس المشارك لمجلس سوريا الديمقراطية (الكيان السياسي الذي يحكم منطقة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا)، كانا بالفعل في السليمانية، وتم استهدافهما بغارة نفّذتها طائرة مسيّرة. في تعليقها على الحادث، ذكرت وزارة الدفاع الأمريكية «هجوماً على قافلة»، بينما تحدث آخرون عن مروحية كانت تعيد اثنين من المسؤولين الأكراد السوريين من السليمانية إلى منطقة الإدارة الذاتية (المعروفة أيضاً باسم روجآفا). في كلتا الحالتين، تواجد أفراد عسكريون أمريكيون في موقع الهجوم، ولكن لم يُبلغ عن وقوع أي إصابات. 

لم يعلن أحد مسؤوليته عن الغارة، لكن جميع الأنظار اتجهت على الفور إلى الحكومة التركية، فقد جاء هذا الاعتداء بعد أقل من أسبوع على إعلان السلطات التركية حظرَ مجالها الجوي عن جميع الرحلات القادمة والمغادرة إلى السليمانية لمدة ثلاثة شهور، بسبب أنشطة مزعومة لحزب العمال الكردستاني في المنطقة. (حزب العمال الكردستاني منظمة سياسية وعسكرية أسسها أكراد من تركيا، تناضل من أجل تحرُّر المجتمعات الكردية في جميع أنحاء المنطقة.)

أتت هذه العملية العسكرية في سياق أحداث سابقة، مثل تحطم مروحية «في ظروف غامضة» يوم 15 آذار في جبال شمال العراق، مما أسفر عن مقتل أفراد من قوات سوريا الديمقراطية، بمن فيهم ابن شقيق كوباني. وقد حصلت قوات سوريا الديمقراطية على تلك المروحية من خلال الاتحاد الوطني الكردستاني، الحزب المسيطر في محافظة السليمانية. ووفقاً للسلطات التركية والحزب الديمقراطي الكردستاني (الحزب المنافس للاتحاد الوطني الكردستاني الذي يدير محافظتي أربيل ودهوك)، فقد تم استخدام المروحيات لنقل المقاتلين بين السليمانية ومنطقة الإدارة الذاتية، واعتبر هذا الحادث حالة تواطؤ واضحة بين قوات سوريا الديمقراطية «الإرهابية» والاتحاد الوطني الكردستاني.

التطورات الأخيرة بين الاتحاد الوطني الكردستاني وحزب العمال الكردستاني

مع أن محافظة السليمانية بقيت تحت إدارة الاتحاد الوطني الكردستاني منذ نهاية الحرب الأهلية الكردية (1994-1997)، إلا أنها شهدت عدة اضطرابات داخلية في السنوات الماضية. أسفرت وفاة جلال طالباني، المؤسس والقائد التاريخي للاتحاد الوطني الكردستاني في 2017، عن أزمة خلافةٍ أحدثت اضطرابات شديدة داخل الحزب نفسه.

مثَّلت مسألة العلاقة بحزب العمال الكردستاني أيضاً موضوع نقاش جاد، فقد دعم بعض قادة الاتحاد الوطني الكردستاني قيام تحالف استراتيجي مع الحزب الديمقراطي الكردستاني وتركيا على الرغم من أن الاتحاد الوطني الكردستاني لطالما حافظ على علاقة ودية مع الميليشيات الكردية. لكن التحالف العسكري الرسمي بين الاتحاد الوطني الكردستاني وحزب العمال الكردستاني، في سياق الحرب ضد داعش، كان أمراً غير مقبول بالنسبة إلى تركيا. ولكن حتى اليوم، ما تزال أنقرة الشريك التجاري الرئيسي لكردستان العراق، الأمرُ الذي يزيد من تعقيد توازن العلاقات بين الجهات الفاعلة.

في عام 2018، أوقفت تركيا جميع الرحلات الجوية إلى السليمانية لعدة أشهر في محاولة لإجبار الإدارة المحلية على النأي بنفسها عن حزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية. بعدها، وقّعَت تركيا اتفاقاً بينها وبين الاتحاد الوطني الكردستاني من أجل «إحباط أنشطة» مقاتلي حزب العمال الكردستاني في محافظة السليمانية. حُظِرت الجهات التمثيلية الكردية السورية، وكذلك جميع المنظمات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني بشكل رسمي، وبقيت الاتفاقية غير فعالة في الغالب. زادَ من لافعّالية الاتفاقية استلام لاهور طالباني رئاسة الاتحاد الوطني الكردستاني عام 2019.

عرض رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني، ذو الميول المعادية للحزب الديمقراطي الكردستاني، عقد هدنة مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني في المنطقة، ولكنه طلبَ منهم التزام السرية لتجنب سخط أنقرة. استأنف الاتحاد الوطني الكردستاني دعمه الثابت لقوات سوريا الديمقراطية خلال الغزو الذي قادته تركيا لقطاع تل أبيض البري في خريف 2019، وفي الوقت نفسه، ظلت المخابرات التركية متواجدة في محافظة السليمانية، حيث نفذت بشكل منتظم اغتيالات مستهدفة للأفراد المنتسبين إلى حزب العمال الكردستاني أو قوات سوريا الديمقراطية.

لم يمثل التغيير الوحشي لقيادة الاتحاد الوطني الكردستاني خلال صيف 2021 تحدياً جوهرياً لأسلوب تعامل الاتحاد مع قوات سوريا الديمقراطية. فبافل طالباني، رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني منذ ذلك الحين، تباهى خلال زيارته إلى روجآفا في أواخر 2022 بالظهور مع الرئيس المشارك لحزب الاتحاد الديمقراطي (وهو فصيل سياسي رئيسي داخل مجلس سوريا الديمقراطية، يقوده أكراد لديهم أيديولوجية مماثلة لحزب العمال الكردستاني). إذن، فالصراع الداخلي الأخير ضمن قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني لم تعرقل التعاون بين الاتحاد الوطني الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية، باعتبار أن أشدَّ المناهضين لحزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية من أعضاء الاتحاد (الدائرين حول فلك الشخصية المنافسة، قباد طالباني، نائب رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان) لم ينجحوا حقاً في السيطرة عليه.

مستقبل تركيا الانتخابي الغامض

رغم عدم وجود دليل قاطع على مسؤولية الجيش التركي عن الغارة التي استهدفت القادة الأكراد، إلا أن أنقرة لا شك موضعُ اتهام في محاولات اغتيال مظلوم عبده وإلهام أحمد. حتى موعد الضربة ليس عشوائياً على الإطلاق، فالانتخابات الرئاسية المقبلة في تركيا ستجري في 14 أيار، والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، الذي سوف يرشح نفسه مجدداً هذا العام، في وضع صعب. لذلك زادت الصحافة الموالية للحكومة في تركيا من عدوانية خطابها تجاه الحركات الانفصالية الكردية، الموضوعُ الذي يثير استقطاب المجتمع التركي ومعارضته السياسية بشكل حاد، وفَسَّرت التصريحات الفضفاضة لمظلوم عبده بشأن احتمال تغيّر النظام في تركيا على أنها تواطؤ بين حزب الشعب الجمهوري – المنافس الرئيسي لحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان – و«إرهابيي وحدات حماية الشعب».

لا يبدو أن استراتيجية أردوغان قد تغيرت منذ الانتخابات السابقة عام 2018، فهي ما تزال تقوم على تقسيم المعارضة، التي تتصف بعدم التجانس، والتي تحالفت بشكل فضفاض رغم تباين مصالحها، استعداداً للإطاحة بحزب العدالة والتنمية. أدى الغزو التركي لمنطقة عفرين في سوريا في كانون الثاني 2018، إلى جانب الثوار المدعومين من تركيا، إلى إزالة مقاتلي وحدات حماية الشعب من المنطقة، وحدوث تقارب ضئيل بين الكماليين الأتراك واليساريين الموالين للأكراد. إثر ذلك، شعر حزب الشعب الجمهوري بضرورة دعم «عمليات مكافحة الإرهاب» التي تستهدف وحدات حماية الشعب، الأمرُ الذي رفضَهُ تماماً حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يُعتبر الحزب الكردي اليساري الرئيسي في تركيا.

حزب الشعوب الديمقراطي، الذي ما يزال قائماً رغم زجِّ العديد من قادته في السجن، مهدد حالياً من قبل الدولة التركية بمنعه من المشاركة في الانتخابات المقبلة. لذلك تخلى عن تقديم مرشح لانتخابات 14 أيار، من أجل تعزيز فرص كليتشدار أوغلو (حزب الشعب الجمهوري) في هزيمة أردوغان في الجولة الأولى من الانتخابات. مع ذلك، ورغم أن حزب الشعب الجمهوري قد قدم بعض التنازلات لحزب الشعوب الديمقراطي وخففّ من تشدُّده السياسي، إلا أنه يظل حزباً قومياً في تركيا.

لو أن مظلوم عبده توفي خلال الغارة، لكان من الصعب على كليتشدار أوغلو ألّا يحتفل بالمناسبة، وذلك رغم تقارب حزبه التكتيكيّ والهش مع حزب الشعوب الديمقراطي الذي ما يزال قانونياً وغير عنيف. كما يبدو أنه سيكون من المعقد استمرارُ حزب الشعوب الديمقراطي في دعم السيد كليتشدار أوغلو بعد أن كان سيحتفي علناً بوفاة مثل هذه الشخصية واسعة الشعبية بين الأكراد في تركيا.

ردة الفعل الرسمية في العراق

تفاعلت حكومة إقليم كردستان، التي يسيطر على مؤسساتها الحزب الديمقراطي الكردستاني، بسرعة مع الحادث الذي وقع في السليمانية. وإضافة إلى إقرارها بمسؤولية تركيا عن الهجوم، فقد أدانَ المتحدث باسمها، جوتيار عادل، «أفعال قيادة الحزب (الاتحاد الوطني الكردستاني) المُعلنة ذاتياً»، ودعا السلطات في السليمانية إلى «معالجة الأسباب الجذرية للهجوم» بدلاً من إلقاء اللوم على تركيا. انسجم هذا التصريح مع موقف الحزب الديمقراطي الكردستاني تجاه تركيا منذ عام 2015، القائمِ على رفض تحميل مسؤولية الهجمات التركية على حزب العمال الكردستاني، والمطالبة بخروج جميع الفاعلين «غير العراقيين» من أراضيها. وفي هذه الحالة، كان التعليق موجهاً لقوات سوريا الديمقراطية وليس إلى حزب العمال الكردستاني. مع ذلك، يبقى خطاب الحزب الديمقراطي الكردستاني نسخة طبق الأصل عن خطاب السلطات التركية التي تستوعب كلا المنظمتين دون مراعاة للفروق الدقيقة بينهما.

الأمرُ المثير للدهشة في إعلان حكومة إقليم كردستان هو غياب أي نوع من الإدانة لما يرقى إلى هجوم مسلح على أراضي حكومة إقليم كردستان من قبل تركيا. علاوة على ذلك، فقد وجِّهَ كل اللوم على الحادث إلى الاتحاد الوطني الكردستاني، مما يؤكد حدّة التوترات بين الحزبين الكرديين الرئيسيين في العراق. مع ذلك، أثار البيان الرسمي لحكومة إقليم كردستان ضجة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح الموقف المتناقض لحكومة إقليم كردستان بشأن هذه المسألة أكثر إثارة للإحراج، نظراً إلى أن فيدرالية العراق نفسها قد أدانت الهجوم وطلبت فوقها اعتذاراً رسمياً لأنقرة. منذ ذلك الحين، نفت تركيا مسؤوليتها عن الهجوم بشكل تام. إن دل ذلك على شيء، فهو يدل على حرج الموقف الذي وضعت تركيا نفسها فيه.

إن غارة 7 نيسان محيرة في كثير من جوانبها. هل هي محاولة يائسة من قبل نظام عفا عليه الزمن لتعزيز فرصه قبل انتخابات حاسمة؟ مهما تكن دوافع تركيا، فمن الواضح الآن أن العملية كانت فاشلة على جميع المستويات: بقي مظلوم عبده وألهم أحمد على قيد الحياة وعادا إلى شمال شرق سوريا، أما المشاعر المعادية لتركيا فوصلت أشدها في محافظة السليمانية. ومن ناحية أخرى، ازدادت هشاشةُ العلاقات بين تركيا والعراق أكثر من أي وقت مضى، بينما بقي التحالف التكتيكي الهش بين جماعات المعارضة التركية سليماً ولم يُصَب بأذى.

VIAأنغيران كارية