لم تكن تعرف مريم، معنى العمل، وخاصة المرتبط بجمع النفايات، ولم تتوقع أن وسط أكوام النفايات ذات الرائحة الكريهة، هناك اموال ستجنى، لكن ذووها كانوا أداة موجهة لها، إذ زجوها بهذا العمل ما إن أشتد عودها، لتلحق باطفال آخرين سبقوها لـ”اكوام النفايات”.

في منطقة معسكر الرشيد شرقي العاصمة بغداد، تسكن مريم مع عائلتها التي تضم والديها و3 أخوات، وتعتبر من العائلات التي تتخذ من النفايات المحيطة بهذه المنطقة مصدرا لكسب الرزق، مقابل عائلات ترى في هذه النفايات سببا للتلوث ونقل الامراض، ووفقا لأبو مريم، فانه عزا انخراطه مع عائلته في هذا العمل الى “الفقر”.

معسكر الرشيد، يعد من أبرز المواقع العسكرية في العاصمة بغداد، وكان يضم سابقا مستشفى عسكري، تعرض للتدمير بعد عام 2003، وأهمل وألغي من قبل الدولة العراقية، لكن مساحته الشاسعة بقيت متروكة دون أي إعمار او إنشاء مشاريع جديدة، ولم تنفذ الخطط الخاصة بتطويره او استغلاله، ومن بينها انشاء مستشفى حديث ومجمعات سكنية عصرية، ما دفع مئات العائلات الى السكن فيه ببشكل غير نظامي، لاسميا وانه قريب على موقع الطمر الصحي.

ويقول ابو مريم خلال حديثه للخط الاحمر، إن “الفقر هو من دفعنا للعمل في مهنة بيع النفايات، ليس لدينا ايّ سبيل آخر، بيوتنا هنا داخل هذا المعسكر وهي منازل تجاوز (تابعة للدولة)، وتقع المنازل وسط تلال النفايات هذه”.

لتجار النفايات في تلك المنطقة، من امثال ابو مريم وغيره الكثير، آلية عمل خاصة تتمثل بوجود اتفاق مسبق مع سائق عجلة جمع النفايات التابعة لامانة بغداد، حيث يعمد السائق بعد جمع النفايات الى إفراغها قرب منزل التاجر المتفق معه، بدلا من إفراغها في موقع الطمر الصحي الرسمي، مقابل مبلغ يتم الاتفاق عليه بين الطرفين.

“كل عجلة نفايات تحتوي على جهاز تتبع (GPS)، إلا أن اصحاب عجلات النفايات يتركون الجهاز على مقربة من موقع الطمر الصحي، حتى لا يكشف أمرهم من الجهات الرسمية التي تتابع مسيرهم، ويأخذون العجلة الى منزل التاجر لتفريغها قربه”، هكذا تقول سعاد عبد الحسين، التي تسكن في معسكر الرشيد.

وبشأن الاسعار توضح عبد الحسين للخط الاحمر، أن “التاجر يدفع لصاحب العجلة مبلغا يتراوح بين 10 – 30 ألف دينار، أي ما يعادل 8 – 20 دولارا، مقابل كل عجلة يتم تفريغها”.

وبحسب تقرير اليونسيف، فأن هناك قرابة السبع ملايين طفل، أي ما يعادل ثلث اطفال العراق بحاجة الى مساعدة بسبب الفقر ضمن احصائيات عام 2019 ، الامر الذي يددفعهم الى العمل (1).

الباحثة الاجتماعية ندى العابدي، تبين للخط الاحمر، أن “مشكلة عمالة الاطفال تتجسد اولاً بثقافة الاهل، فهناك الكثير من العائلات الفقيرة جداً إلا انهم لم يحرموا ابنائهم من الدراسة وحرصوا على ذلك، ولكي نكون اكثر انصافاً فهناك أسر لا يوجد لديها معيل سواء أم او أب، ما يدفع الابن الاكبر وان كان في سن صغيرة، إلى أن يكون معيلا لاخوته”.

وتشير العابدي إلى أن “السبب وراء عمالة الاطفال يعود لعدم وجود عقاب رادع لمرتكبي جريمة عمالة الطفل، رغم وجود مواد قانونية تمنع ذلك لكنها غير فاعلة او غير منفذة على ارض الواقع”.

في منطقة معسكر الرشيد تُجند العوائل ابنائها للعمل في جمع النفايات وعزل المفيد منها، وليست منطقة معسكر الرشيد او ناحية ما يعرف بجسر ديالى وحدها تعاني هذه الظاهرة، فهناك مناطق عشوائية مختلفة بالعراق تعاني ايضا من ذات المشكلة، بل حتى في الاعتيادية بدأت هذه المهنة تنتشر، وذلك الى جانب تجنيد الاطفال بمسألة التسول.

ويكشف المتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي للخط الاحمر، أن “نسبة عمالة الاطفال بالعراق لا اتجاوز 1.6% حسب احصائيات عام 2020، لكن نسبة العمالة ترتفع في اقليم كردستان”.

لكن، عضو مفوضية حقوق الانسان علي عبد الكريم البياتي يفند كلام الهنداوي، حيث يوضح للخط الاحمر، أن “اليونسيف رصدت اكثر من 10 الاف طفل عراقي يعانون من الإجبار على العمل بحسب احصائيات 2020، اي ما يعادل 8% من اطفال العراق”.

ويؤكد البياتي أن “محاولات مفوضية حقوق الانسان جادة لتغيير واقع الطفل العراقي، غير أن الحكومات المتتابعة وبسبب الفساد لا يبدون أي تعاون جاد لحل هذه الظاهرة السيئة”.

آثار النفايات
أكثر من 4360 شخصا نقلوا الى مستشفيات مختلفة إثر التلوث البيئي في العراق بحسب خبراء بيئة، ووفقا للناشط البيئي محمد العمبكي فأن “منطقة معسكر الرشيد تعدّ من اهم مناطق التلوث البيئي في العراق”.

ويوضح العمبكي أن “هذه المنطقة عبارة عن مدينة مغمورة بالنفايات، أناسها ينشطرون نصفين بعضهم مستفيد من اكوام النفايات هذه ويقتات عليها ويكسب عيش يومه منها، والبعض الاخر متضرر منها بسبب ما تسببه من تلوث بيئي، فضلاً عن حرق هذه النفايات بين الحين والآخر من قبل تجار النفايات، ما يؤدي إلى تحوّل العاصمة بغداد الى مدينة تغزوها الغيوم السوداء، بالإضافة الى الرائحة غير المرغوب فيها، التي تنتج بعد الحرق”.

ويؤكد العمبكي أن “هناك منطقة اخرى تقع عند اطراف العاصمة بغداد وهي ناحية جسر ديالى، وتعاني هي الاخرى من تلوثٍ بيئي غير مسبوق بسبب وجود مفاعل تموز (2)”.

يشار أن مفاعل تموز النووي، تعرض لضربة جوية في السابع من يونيو 1981 ما ادى الى انتشار وانبعاث مادته النووية، وما زالت تبعات التلوث البيئي للمفاعل تؤثر على سكان المنطقة، فمنذ عام 1991 وحتى عام 2003 بلغ عدد المصابين بالسرطان في العراق 131 ألفا و72مصابا، فيما ارتفع هذا العدد كثيراً بعد حرب 2003 التي أطاحت بنظام صدام حسين.

ومنذ عام 2004 حتى عام 2018 بلغ عدد المصابين بالسرطان 287 ألفا و254 مصابا، بحسب تقارير وزارة الصحة، لكن هناك من يعتبر أنَّ هذا الرقم أقل كثيراً من العدد الفعلي لمرضى السرطان، وتذكر تقارير اخرى ان هنالك 500 فرد يموت سنويا في العراق بسبب امراض السرطان الناتجة عن مخلفات هذا المفاعل او غيرها من الاسباب ( 3 ).

تبادل الاتهامات
في عام 2019، وجهت مديرية الدفاع المدني قرابة الـ15 فرقة حوضية تابعة لها لاخماد حرائق معسكر الرشيد (4)، وبحسب الخبير البيئي عبد الرزاق الشمري فأن “كل عملية حرق للنفايات بمعسكر الرشيد تؤدي الى اختناق قرابة 200 شخص، ولنا ان نتخيل أن عمليات الحرق تتكرر اربع الى خمس مرات خلال الشهر الواحد، فكم شخصا سيتضرر بسببها”.

ويذكر الشمري للخط الاحمر، أن “الحرائق مستمرة حتى اللحظة، والسبب هو موظفي امانة بغداد، كما لا يمكننا التغاضي عن الدور المتقاعس للقوة الماسكة للمنطقة، سواء الشرطة الاتحادية او أي قوة تابعة لوزارة الداخلية، فالمنتسبين يسمحون لبعض عجلات النفايات غير التابعة للامانة بالدخول الى هذه المنطقة وافراغ شحناتها”.

وتقدر منظمة الصحة العالمية أن نحو 7 ملايين شخص يموتون سنويا بسبب التعرض لجسيمات دقيقة في الهواء الملوث، التي تخترق بعمق الرئتين والقلب والأوعية الدموية، بما يسبب الأمراض، مثل السكتة الدماغية وأمراض القلب وسرطان الرئة وأمراض انسداد الشعب الهوائية المزمنة والتهابات الجهاز التنفسي، بما فيها الالتهاب الرئوي (5).

ويؤكد معاون مدير بلدية الكرادة جاسم محمد يحيى لـلخط الاحمر، أن “العجلات الحاملة للنفايات والتي تدخل الى المعسكر تابعة لبعض الشركات التي لا صلة لها بامانة بغداد، وهي تدخل بعلم من منتسبي وزارة الداخلية الذين يشكلون خطاً حاميا للمعسكر”.

ويشير يحيى إلى أن “عجلات امانة بغداد تحتوي اجهزة تتبع، وفي حال لمسنا أي مخالفة من اي موظف سنقوم بمعاقبته، فضلا عن وجود مواقع طمر صحي خاصة بالامانة، فما الذي يضطر موظف الامانة لافراغ شحناته في مناطق غير مخصصة لذلك”.

وتنتشر في معسكر الرشيد العديد من العجلات التابعة لوزارة الداخلة العراقية، والهدف منها حماية المنطقة، ويقول المتحدث باسم وزارة الداخلية خالد المحنا للخط الاحمر، أن “العجلات المنتشرة في المعسكر تهدف لحماية المعسكر من الدخلاء، نحن على علم بوجود عجلات تابعة لشركات او مطاعم تحاول افراغ شحناتها من المخلفات البيئية في تلك المنطقة، ولكننا لا نسمح بدخول هذه العجلات إلا الخاصة بامانة بغداد”.

ويتابع المحنا “داخل معسكر الرشيد يمنع وقوف أي عجلة نقل حاويات النفايات امام المنازل، فمواقع هذه العجلات عند موقع الطمر الصحي فقط، ويحاسب بشدة كل من يخالف هذه القوانين”.

اسبابٌ ونتائج
اسباب كُثر تكمن وراء ارتفاع نسبة التلوث في العراق التي قد تصل الى اكثر من 40% بحسب منظمة الصحة العالمية، فمستشفيات السرطان تستقبل وحدها اكثر من 12 ألف حالة سنوياً، وتختلف اسباب هذا التلوث التي من ابرزها تلك المناطق الموبوئة بالتلوث البيئي كنهر ديالى في ناحية جسر ديالى ومنطقة مفاعل تموز ومعسكر الرشيد، فضلا عن مسببات التلوث الاخرى، وغياب الغطاء النباتي، بالإضافة الى ملوثات العجلات ومخلفات المؤسسات والبيوت والمعامل والمطاعم وغيرها.

وكل مسببات التلوث تلك غير خاضعة لرقابة حقيقية من قبل الجهات المعنية، إذ يؤكد المتحدث باسم وزارة الصحة سيف البدر للخط الاحمر، أن “العراق يعاني من تلوث الماء والهواء والتربة الناجم عن انبعاثات السيارات والمولدات الكهربائية في المناطق المزدحمة، والإسراف في استخدام الأسمدة الكيميائية، إضافة إلى مخلفات الحرب والقصف باليورانيوم المنضب، فضلا عن التلوث الذي يتسبب به المواطن نفسه”.

ويبين أن “المعدل السنوي للإصابة بمرض السرطان في العراق يبلغ 2500 إصابة، بينها 20% إصابات بسرطان الثدي”، متابعا أن “المعدل السنوي يشكل من 11 إصابة إلى 15 إصابة بين كل 100 ألف شخص، وهو ضمن المعدلات الطبيعية المسجلة في المنطقة المحيطة بالعراق، وحتى بعض الدول الأوروبية”.

ويحتل سرطان الثدي المرتبة الخامسة بين أنواع السرطان المسببة للوفاة بالعالم، بـ571 ألف حالة وفاة من أصل 8.8 مليون حالة وفاة عام 2015، وذلك وفقا لمنظمة الصحة العالمية.

حلول ومعالجة مسببات التلوث البيئي خاضعة ككل شيء في العراق الى سوء ادارة الازمات من قبل الحكومات المتعاقبة، فضلا عن الفساد المستشري في البلاد والذي أدى الى انهيار المنظومات والبنى التحتية لجميع المؤسسات.

VIAزينب المشاط