“كما يتوفى بعض المحكومين بالإعدام قبل تنفيذ الحكم بهم بساعات نتيجة الرعب، توفي أخي عمار علي بعد انعزاله عن العالم الخارجي بسبب التنمر عليه، لأنه كان يعاني من عيوب خلقية في رأسه”، بهذه الكلمات يختصر تحسين علي حكاية شقيقه.

يسرد تحسين القصة المؤلمة التي عانى منها شقيقه عمار، الذي توفي وعمره 24 عاما، بسبب التنمر، قائلا إن “أخي كان يعاني من عيب خلقي في رأسه وشعره، وخاصة شعره فهو لا ينمو بشكل طبيعي وبقي لونه فاتح، وهذا ما دفع أغلب الاشخاص القريبين منه وغير القريبين من التنمر عليه، وحتى بعض المارة كانوا ينعتونه بصفات غريبة ومسيئة جدا وقاسية”. 

وبحسرة وألم، يؤكد تحسين أن “أخي حاول بكل الطرق أن يتجاوز التنمر عليه لكنه لم ينجح، وفي فترة من الفترات بدأ يشرب الحكول في خطوة للفت أنظار الناس له بشيء آخر غير شكله، أي يوجه حديث الناس معه عن المشروبات الروحية بدلا من شكله، لكن لم ينجح أيضا، حتى أنه مارس أمورا غير اخلاقية بغية التخلص من الحديث عن شكله، لكن دون فائدة تذكر”. 

“عمار تعرض للتنمر من أقرب الناس اليه، وممن كان يتودد اليهم ويحب الحديث معهم، إلا ان التنمر كان سيد الموقف في طبيعة علاقتهم معه”، هكذا يكمل تحسين حكاية شقيقه. 

ويتابع “عمار دخل بحالة نفسية سيئة جدا، تمثلت بإنعزاله عن العالم الخارجي وبقي أشهر عدة حبيس المنزل ولم يخرج منه، وكان يعتمد على أفراد العائلة بشراء احتياجاته الشخصية”، مضيفا “توجه عمار إلى وسائل التواصل الاجتماعي وأنشا صفحات فيها للتواصل مع الاخرين، لكنه لم يتمكن من وضع صورته الحقيقية، وهذا الأمر زاد من ألمه وتأزمت حالته كثيرا، حتى توفي بشكل مفاجئ”.  

وكانت المجموعة المستقلة للأبحاث، أجرت في العام الماضي استطلاعا حول التنمر في العراق، شمل 2000 عراقي، وأظهرت النسب نحو 15% منهم قد تعرضوا للتنمر، وأن 10% من الاسباب تحصل بسبب السخرية الطائفية، وذات النسبة بسبب نوع الجبس واللون والعرق.

علميا

الطبيب النفسي وسام الذنون أكد في حديثه لموقع “الخط الأحمر” أن “التنمر يكون على أنواع، منه جسدي ونفسي (أي لفظي) وبكل حالاته هو نوع من انواع العنف، ومن أبرز اسبابه هو العنف المنزلي الذي ينقله الشخص معه خارجا ما ينعكس على اصدقائه، إضافة الى فقدان مهارات التواصل، التي تدفع الشخص سواء كان طفلا أو بالغا، إلى التنمر على الاخرين من أجل الحصول على ما يريده، أما السبب الثالث للتنمر فهو مرتبط بعدد من الامراض النفسية المعينة، مثل نقص الحركة”.

وأضاف الذنون “هناك مسألة اخرى وهي ان الشخص المتنمر عليه هو بالأساس يكون ضعيفا ولا يجيد التعامل مع الأمور التي تواجهه، ما يجعله هدفا سهلا للاخرين للتنمر عليه، وحتى أن الاشخاص اللذين لا يتنمرون نلاحظهم يمارسون التنمر على هذا الشخص”.

وحول ما إذا ممكن أن يتحول الشخص المتنمر عليه إلى متنمر، كرد فعل عكسي، أوضح الطبيب المختص أن “الشخص الذي يتعرض للتنمر يمكن هو ايضا أن يكون متنمر مستقبلا كردات فعل طبيعية، ولكن هذا لا يحدث دائما، لأن الشخص المتنمر عليه يكون عرضة للاكتئاب ويكون متخوف في اغلب الاحيان، وتتسم شخصيته بالضعف، ولكن هناك ردات فعل تحصل على بعض الاشخاص المتنمر عليهم ما يجعلهم متنمرين مستقبلا، وهذه نسبتها قليلة”.   

وبشأن آثار التنمر على الاشخاص الذين يتعرضون له، بين الذنون أن “الشخص المتنمر عليه يصاب بالاكتئاب، وهذا يجلب له امراض عديدة منها، امراض القلب والشرايين واحيانا الاكتئاب يؤدي إلى الانتحار، كما من آثاره الأخرى على الاطفال الذين يتعرضون للتنمر، هو امتناعهم عن الذهاب للمدرسة”.

وكانت مفوضية حقوق الإنسان العراقية، أكدت في شهر أكتوبر الحالي، أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة دعا في قرار له الدول إلى اتخاذ جميع التدابير المناسبة لمنع وحماية الأطفال من جميع أشكال التمييز والعنف، بما في ذلك في السياقات الرقمية، ولإنشاء هيئات ذات موارد جيدة ومسؤولة عن منع ومكافحة ومعالجة الآثار السلبية للتنمر عبر الإنترنت، من بين تدابير أخرى.

وطالبت الحكومة والبرلمان بـ”اتخاذ إجراءات عاجلة لمكافحة التنمر الرقمي الموجه للأطفال وتشريع قانون حماية الطفل ووضع عقوبات رادعة فيه للجهات والأفراد الذين يقومون بالتنمر ضد الاطفال”.

دور تشاركي

وفي هذا الصدد، يوضح العضو السابق في مفوضية حقوق الإنسان أنس العزاوي (حل مجلسها لانتهاء دورته القانونية) خلال حديث لموقع “الخط الأحمر”، أن “ظاهرة التنمر بدأت تتزايد بالفعل في المجتمع العراقي، وحجزت مكانا لها إلى جانب ظواهر خطيرة متفشية أخرى مثل الانتحار والتسول وتعاطي المخدرات”.

ويرى العزاوي أن “مثل هكذا ظواهر تحتاج إلى سياسات عامة وبرامج حكومية ودور تشاركي واضح لمؤسسات المجتمع المدني، من أجل معالجتها قبل أن تستفحل وتتحول إلى آفة من الآفات التي تنخر جسد المجتمع”.

وفيما يخص الأطفال، يشير إلى أن “ظاهرة التنمر تساهم في تسرب ضحاياها من المدارس أو بدئهم بتعاطي المخدرات للهروب من الواقع، وهذا بعض من آثارها الوخيمة، لذا يجدر بكل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني المعنية ممارسة دور فاعل لتوعية المجتمع بشأن هذه الظاهرة ومنع تحولها إلى آفة”.

ويؤكد على “ضرورة تكثيف البرامج التوعوية والدورات التثقيفية في المجتمع، لتكون حائط صد أمام هذه الظواهر، وتركيز التثقيف على المدارس والجامعات وسائر المؤسسات التعليمية باعتبارها الأماكن الأكثر احتواء لظاهرة التنمر”.   

ومن بين قصص التنمر، هو ما تعرض له الفتى الإسترالي كويدن بايلز البالغ من العمر 9 أعوام، المصاب بمرض القزامة، وتعر للتنمر في مدرسته، وظهر في مقطع فيديو ويقول أنه يريد الموت، وهذا الفيديو انتشر على نحو واسع وحقق ملايين المشاهدات، ما دفع الممثل الكوميدي الأميركي براد وليامز إلى إطلاق حملة لجمع التبرّعات على صفحته وصلت إلى حوالى 475 ألف دولار.

عائلة بايلز، أعلنت مطلع العام الحالي، أن الأموال التي كان من المفترض أن يزور بها متنزه “ديزني لاند”، سيتم التبرّع بها لمؤسسات خيرية، في خطوة للحد من حالات الانتحاب بسبب التنمر.

الإنعكاس على التعليم

المشرف التربوي عمار عطية، يوضح خلال حديث لموقع “الخط الأحمر”، أن “موضوع التنمر استفحل في مدارس العراق بشكل مخيف حتى وصل إلى مراحل متقدمة، إذ يتم الاعتداء على التدريسيين وضربهم وإهانتهم أو التنمر عليهم، سواء في الواقع أو في الحياة الافتراضية من خلال مجموعات مواقع التواصل الاجتماعي”.

ويلفت إلى ان “غياب الحماية الأمنية جعل الكوادر التدريسية قليلة الرغبة في إكمال مشوارها وإيصال رسائلها العلمية، والتدريسي العراقي يعيش الآن في جو من القلق والخوف، بينما من المفترض أنه رجل دولة يقدم رسالة علمية”. 

ويشير العطية إلى أن “تنمر الطلبة في ما بينهم دفع كثيرين منهم إلى ترك الدراسة نهائيا، وعندما نتواصل مع أولياء أمور بعض الطلبة للاستفسار عن سبب عدم مجيء أبنائهم بلغوننا بأنهم تعرضوا للتهديد أو التنمر وحتى الاعتداءات الجنسية”، مبينا أن “التنمر تسبب بتراجع كبير في مستويات الطلبة التعليمية، وأدى إلى زيادة معدلات الرسوب بشكل ملحوظ، ولم نر حلولا واقعية ورادعة لهذه الظاهرة”. 

ويشكف “عقدنا اجتماعات عديدة مع أولياء الأمور لوضع حد لهكذا تصرفات، لكننا لم نتوصل إلى حل حاسم، بل الأصعب من ذلك أن بعض أولياء الأمور يرفع صوته على المعلم أو المدرس، مفسحا المجال أمام الطلبة لتقليد هذا السلوك غير الأخلاقي”. 

يشار إلى أن “المركز الوطني للوقاية من التنمر” (National Bullying Prevention Center) في الولايات المتحدة، نشر دراسة تبين أن واحدا من كل 5 طلاب في أميركا يتعرضون للتنمر أثناء الدراسة بما نسبته 20.2%.

كما أشارت ورقة بحثية نُشرت العام الحالي، في مجلة “هارفارد للطب النفسي” (Harvard Review of Psychiatry)، أن المرأة التي تعرضت للتنمر عندما كانت طفلة تزيد احتمالية إصابتها باضطراب الهلع في سن الشباب بمقدار 27 مرة، أما عند الرجال فقد أدى التنمر في مرحلة الطفولة إلى زيادة قدرها 18 ضعفا في التفكير بالانتحار.

التنمر في الإعلام 

الإعلامي ومقدم البرامج حسام الحاج، يقول في حديث لموقع “الخط الأحمر”، أن “أي متصد لخدمة عامة معرض للتنمر أو السب والشتم الممنهج من قبل جيوش إلكترونية، وأنا شخصيا تعرضت أكثر من مرة لهجمات منظمة ومدفوعة من قبل أحزاب في مواقع التواصل الاجتماعي”.

ويؤكد أن “انتقاد جهة معينة يفتح باب التنمر من قبل جمهورها، وأيضا الحديث عن إيجابيات جهة ما يدفع بقية الجهات إلى التنمر والتجاوز والإساءة”، مضيفا “في مساحات الإعلام السياسي يكون التنمر على أساس التوجه والرأي وليس المظهر الخارجي أو غيره من التفاصيل”.

لكن الحاج يكشف أن “هناك إعلاميين تراجعوا خطوة إلى الخلف بسبب التنمر ضدهم، في حين صمد آخرون أمام الجيوش الإلكترونية، وهذه الحالة ناتجة عن الصراع القائم في المجتمع بين المفاهيم والهويات والأيديولوجيات، لذا هناك ضرورة للتثقيف بهذا الشأن على الرغم من صعوبة القضاء على هذه الظاهرة”.

وتعج مواقع التواصل الإجتماعي في العراق، بعشرات الصفحات التي تهاجم الإعلاميين وتتنمر عليهم وتتداول مقاطع فيديو لهم، فيها زلة أو حركة عفوية، وتستخدمها ضدهم.  

كما هناك صناع محتوى، ظهروا مؤخرا في العراق، مهمتهم هي التنمر على صناع المحتوى الآخرين، حيث يأتون بمقاطع فيديو من قنوات مختلفة ويتنمرون عليها، كما ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي على إطلاق ألقاب مختلفة على الأعلاميين والفنانين، وباتت هذه الألقاب هي السائدة بدلا من الأسم الحقيقي، وغالبا ما تندرج هذه الألقاب ضمن حقل التنمر، فمثلا يتم تشبيه الفنان بحيوان ما أو بكلمات بذيئة معينة.

دور المنظمات

وبهذا الشأن، تقول نضال العبادي، أكاديمية وباحثة اجتماعية ورئيسة منظمة “عيون” للثقافة وممثلة الأمم المتحدة عن منظمة اليونسكو خلال حديث لموقع “الخط الأحمر”، أن “المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني لم تمارس دورا جادا في معالجة ظاهرة التنمر المستفحلة في المجتمع”.

وتوضح العبادي الأسباب بأن “المنظمات الدولية تسحب يدها عندما ترى أن مشروعا ما يتطلب مبالغ مالية كبيرة لتنفيذه، فيبقى المشروع حبرا على ورق”، مبينة أن “هذه المنظمات لم تقدم برامج توعوية إرشادية بمستوى الطموح، وما تقدمه في هذا الصدد لا يتجاوز 1 بالمئة، غير أن هناك محاولات متواضعة تتم بمجهود شخصي لمعالجة هذه الظواهر”.    

وتلفت إلى أن “المصابين بمتلازمة داون أصبحوا لقمة سائغة للمتنمرين، الأمر الذي ألقى بظلاله على حالتهم النفسية ونموهم وتحسنهم الصحي، كما أنهم أصبحوا وسيلة ناجحة لكسب الأموال من قبل بعض المنظمات التي تستغل حالتهم”.

يذكر أن برنامج “أولويوس لمنع التنمر” (The Olweus Bullying Prevention) أحد أكثر البرامج التي تم اختبارها على نطاق واسع، وقد تم تطويره من قبل عالم النفس السويدي النرويجي الراحل دان أولويوس الذي قاد الكثير من الأبحاث الأكاديمية المبكرة حول إيذاء الأطفال.

ويعتمد البرنامج على فكرة أن الحالات الفردية للتنمر غالبا ما تكون نتاج ثقافة أوسع تتسامح مع الإيذاء، ونتيجة لذلك، يحاول معالجة النظام البيئي للمدرسة كاملا حتى لا يزدهر هذا السلوك السيئ فيه.

وتشير الأبحاث المتخصصة، إلى أن الإجهاد الناتج عن التنمر يمكن أن يؤثر سلبا على الجسم لعقود بعد الحدث، فمن خلال تحليل البيانات من دراسة زمنية طويلة الأمد استمرت 50 عاما، وجدت أن التنمر المتكرر بين سن 7 أعوام و11 عاما مرتبط بمستويات أعلى من الإصابة بالالتهابات المختلفة والسمنة في سن 45 عاما.

قانونيا

يرى الخبير القانوني عدنان الشريفي خلال حديث لموقع “الخط الأحمر”، أن “التنمر في القانون هو الاعتداء، وقد نظم هذا الموضوع في قانون العقوبات العراقي بمواد عدة، سواء ما يتعلق منها بالتهديد أو المشاجرة والإيذاء وما إلى ذلك، ولكن لا توجد مادة محددة في القانون تذكر مفردة (التنمر) نصا”.

ويتابع أن “المواد الحامية للمتضررين من التنمر في قانون العقوبات هي 413 و414 و430 و431، إذ أن بإمكان الشخص الذي يثبت تعرضه للأذى من التنمر، تقديم شكوى إلى المحكمة لتتخذ الإجراءات اللازمة”، موضحا أن “الإجراءات تتضمن إخضاع المشتكي لفحوصات طبية، وإذا ثبت تعرضه لاعتداء سبب عاهة له يعد الاعتداء جناية وفق المادة 412، أما إذا لم يسبب عاهة يعد جنحة وفق المادة 414”.

يذكر أن جميع الولايات الخمسين في الولايات المتحدة، أقرت تشريعا لمكافحة التنمر في المدارس، أولها جورجيا في عام 1999، وأخرها ولاية مونتانا التي تبنت تشريعًا لمكافحة التنمر في أبريل 2015. تدافع منظمة Bully Police USA الرقابية عن تشريع مكافحة التنمر والإبلاغ عنه.

وفي كندا، تم اعتماد قانون في عام 2012. في حكومة مقاطعة كيبيك لمكافحة التنمر والذي دخل حيز التطبيق في نفس العام، كما فرضت النمسا قوانين على المعلمين واجب الرعاية القانونية لضمان سلامة ورفاهية طلابهم، وبالتالي، فعلى المعلمين الالتزام مهنيا وأخلاقيا من خلال التدخل في حوادث التنمر.

وأقرت الفلبين قانون مكافحة التنمر لعام 2013، الذي يشترط على جميع المدارس الابتدائية والثانوية في البلاد اعتماد سياسة لمكافحة التنمر، كما وافق الكونغرس في دولة تشيلي قانون العنف المدرسي، الذي عدل القانون العام للتعليم لوضع تعريفات وإجراءات وعقوبات واضحة للعنف المدرسي والتنمر.