لم يعد أحمد يرتدي بزته التقليدية كعامل نظافة في إحدى البلديات، كان يظهر متأنقاً وكأنه يعمل في مهنة مكتبية فاخرة، ففي الثامنة من صباح كل يوم يذهب بطقم أسود وقميص أبيض وحذاء لامع، يتعدّى دائرته بإشارة سلام سريعة، ثم يذلف إلى منزل فاره، هو بيت أحد المحافظين السابقين ونائب في البرلمان.

والعمال “الوهميون” أو “الفضائيون” لا يختلفون عمّا موجود من نظراء لهم في المؤسسة العسكرية والأمنية وبقية مفاصل الوزارات الأخرى، إلا أن الجديد هنا أن هؤلاء لم يكونوا “فضائيين” بالمعنى المطلق، إذ تحولوا إلى خدمة أخرى في منازل مسؤولين متنفذين بعد أن كانوا موظفين يخدمون الصالح العام.

أحمد، لم يكن هو الوحيد الذي تغيّر عمله بهذه الشكل، فسرعان ما انتدب المسؤول نفسه اثنين من زملائه كعمال خدمة في منزله ومكتبه، فهم موظفون رسميون في دائرة البلدية ويتسلمون مرتباتهم منها، إلا أن مكان عملهم تغيّر إلى خدمات خاصة بمكتب ومنزل مسؤول محلي ونائب في البرلمان.

“مهنتنا كعمال نظافة في الشارع لا تلقى الاحترام بسبب ثقافة المجتمع، فالكل ينفر من عامل البلدية في الأماكن والمواصلات العامة”، يقول أحمد الذي طلب عدم الكشف عن اسمه الكامل.

وأضاف لموقع “الخط الأحمر”، أنه وبوساطة من أقاربه استطاع أن يغير العمل من “الكنس في الشوارع” إلى الخدمة في بيت المسؤول، فساعات الدوام حينما يتواجد المسؤول في مكتبه أو داره قد تكون طويلة، لكنه في أغلب الأيام يكون غائبا، مؤكدا أنه واثنين من زملائه يتناوبون على “تنظيف المكتب والمنزل وحديقته وتقديم الشاي والقهوة للضيوف، والقيام بخدمات منزلية أخرى كالتسوق وتشغيل المولدة وإدامة المستلزمات الأخرى”.

شريحة عمال النظافة، من شرائح المجتمع المهمشة، فلم تحظ بأي اهتمام حكومي، لاسيما أن رواتبهم هي الأدنى بين موظفي الدولة، حيث يتقاضى العامل شهريا 320 ألف دينار (ما يعادل 220 دولارا).

ويعمل غالبية عمال النظافة، دون أي تجهيزات خاصة، فغالبتهم يرتدي بذلة رمادية من مناشئ رديئة أو يكون بملابسه الخاصة مع تغطية وجهه بوشاح معين، وهذا الأمر أدى إلى تعرض العديد منهم إلى الحوادث، خاصة الذين يعملون في المساء، نظرا لغياب السترات المضيئة، التي يتم ارتداؤها من قبل عمال النظافة بمختلف الدول، أو العاملين الآخرين في الطرق، مثل التعبيد والصيانة وغيرها.

ومؤخرا، التقى رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، بمجموعة من عمال النظافة، حيث استقبلهم في القصر الحكومي، وظهروا وهم يرتدون بذلتهم الرسمية مع السترات البرتقالية، وهو مشهد لم يلحظه المواطن في الشارع، ووفقا للبيان الرسمي للحكومة، فأن اللقاء شهد بحث مشاكل عمال النظافة وقضية الرواتب والآليات. 

ويشوب ملف عمال النظافة الكثير من عمليات الفساد، بحسب ما يقول عضو لجنة النزاهة النيابية باسم خشان، لموقع “الخط الأحمر”: “سبق وأن حركت دعوى قضائية في هذا الملف، لكن الإجراءات لم تتم في حينها بشكلها الصحيح”.

ولم ينكر خشان أن ظاهرة تفريغ عمال النظافة من عملهم الأساسي وسحبهم لبعض الدوائر ومنازل المسؤولين موجودة، وهذا يضاف إلى تسجيل أسماء وهمية بغية سحب رواتب بها، ومن الأمثلة ما جرى في محافظة الديوانية، حيث تم اكتشاف تسجيل اسم طبيب كعامل نظافة لغرض استحصال راتب باسمه.

وعن كيفية تنفيذ عمليات سرقة الأموال، يوضح النائب أن “آلية توزيع الرواتب تكون بيد شخص واحد، وهو المسؤول عن العمال، تصرف له الرواتب بالكامل وهو يوزعها لهم، بالتالي تحصل عمليات فساد وإضافة أسماء وهمية”.

ووعد عضو لجنة النزاهة النيابية بأنه سيفعّل “قريباً هذا الملف من جديد”.

وترزح المدن العراقية السكنية بأكوام القمامة، ومع ما تتركه مياه الأمطار من برك آسنة، تصبح مرتعا للفيروسات التي تسبب الأوبئة والأمراض، أما الشوارع الرئيسية فتكسو جوانبها طبقة ترابية سرعان ما يرتفع منها الغبار عند مرور السيارات، إذ نادرا ما يتم تنظيف هذه الجوانب والأرصفة –إن وجدت- والسبب الذي تذكره بلديات المدن هو قلة عدد عمال التنظيف أو انعدام وجود الآليات.

وفي بغداد، فأن أمانة العاصمة ترفع يوميا آلاف طن من النفايات، كما كشف المتحدث باسمها محمد الربيعي مؤخرا، حيث فصلها إلى أن 65 بالمئة منها مواد عضوية وهي بقايا الطعام، أما النسبة المتبقية فهي مواد غير عضوية.

وأمام شارع رئيسي في ذي قار، ارتفعت هالة من الغبار خلف سيارة مسرعة أخنقت عمال التنظيف الذين يجمعون النفايات من أمام أحد المطاعم.

يقول محمد حسين، وهو أحد عمال التنظيف الذي يعمل بأجر يومي منتظرا تثبيته على الملاك الدائم، لموقع “الخط الأحمر”، إن “العدد لا يسمح بكنس وغسل الشوارع، لقد كانت هذه الآلية موجودة في السابق، لكن الآن نقوم بجمع الحاويات التي تتركها المنازل أو النفايات المتكدسة في الشوارع والساحات، فعددنا في السابق كان أكبر، لكن كثيرين اختفوا”.

لم يستطع العامل حسين أن يكشف أن زملاء له قد سحبوا إلى دوائر ومكاتب أخرى، لكنه اكتفى بالتلميح.

وينفي عباس جابر معاون محافظ ذي قار، في حديثه لموقع “الخط الأحمر” وجود ظاهرة سحب العمال إلى خدمة منازل مسؤولين أو دوائر ومكاتب أخرى.

ويقول “ذي قار لا يوجد فيها هكذا شيء، إن مجتمعنا بطبيعته لا يتقبل مثل هكذا أمور وتصرفات، لكن المشكلة الحقيقة بالنظافة في ذي قار تكمن في قلة وجود الآليات التي نعاني شحة كبيرة فيها، أما اليد العاملة يمكن أن نقول لدينا زيادة أو اكتفاء إلى حد ما فيها”.

جابر يبرر سوء تنظيف المدن بأن “وسائل رفع الأنقاض غير موجودة”، ثم يعود ليؤكد أن “قضية تشغيل عمال النظافة في منازل المسؤولين غير موجودة في محافظتنا على الأقل”.

وتشهد البلد منذ سنوات، بروز ظاهرة سميت بـ”الفضائيين”، وتتمثل بعدم دوام الموظف او الجندي، مقابل منح نصف راتبه لمديره أو الأمر العسكري المرتبط به، وهذه الظاهرة تركزت في وزارتي الداخلية والدفاع بشكل كبير، وكانت سببا بالانهيار الأمني في بعض المناطق، وخاصة الهجمات المتفرقة من قبل تنظيم داعش، إذ كان يستغل عدم وجود كامل عدد الجنود في النقطة الأمنية ويشن هجومه. 

وبالتوجه لمدنية الكوت، حيث أكد عباس حسين، وهو موظف في بلدية المدينة لموقع “الخط الأحمر” أن “قضية تشغيل عمال النظافة في منازل المسؤولين أو المتنفذين في المحافظة غير موجودة ولم نشهد أو نسجل مثل هكذا حالات”.

غير أن حسين لم ينكر هذا على العاملين بصفة عقود، يقول “ما يجري هو تعيين البعض بصفة عقد على سبيل المثال على تنمية الأقاليم أو صندوق دعم واسط وغيرها، وبعدها يتم تفريغه ليكون متواجدا بشكل مستمر في منازل أحد المسؤولين”.

يشار إلى أن المحافظات تتمتع بموازنات مالية عديدة، منها صندوق تنمية الأقاليم ومخصصات لكل منها، تورد سنويا في الموازنة العامة للبلد، إضافة إلى أموال المشاريع والتنمية، رغم أن الموظفين في المحافظات يستلمون رواتبهم بشكل مركزي من وزارة المالية. 

وبالنسبة لعامل النظافة، ومع ما تسببه نظرة الثقافة المجتمعية تجاه مهنته، فإنه يفضل العمل في بيت المسؤول كأحمد الذي ارتدى طقما أسود وأمسك منديلا ليمسح فناجين قهوة ويرصفها بعناية على رف خشبي بمكتب المسؤول.