بما يشبه “الغدر”، تنكّر العراق تجاه ملايين الطيور المهاجرة التي تحلق لمئات آلاف الكيلومترات بحثا عن الدفء بأهواره، لكنه بدلا من توفير البيئة المناسبة لها، دفعها إلى إتخاذ المياه الآسنة والضحلة في الكويت ملاذا لها، في سابقة هي الأولى من نوعها، حيث تضطر هذه الطيور إلى الهبوط في مستنقعات ضحلة. 

باتت الأهوار جنوبي العراق، وخاصة في محافظة ذي قار التي تضم أكبر هذه المسطحات المائية التي كانت مليئة بالحياة، باتت عبارة عن ذكرى فقط، بعد انخفاض مستوى مياهها لما دون المستويات المحددة، وفضلا عن الكثير من المشاكل التي ترافق هذا الجفاف، تبرز قضية مهمة وهي الطيور المهاجرة، التي فقدتها الأهوار بعد أن كانت من أبرز سماتها. 

ويصادف يوم 13 من مايو من كل عام، يوما عالميا للطيور المهاجرة، حسب ما حددته الأمم المتحدة.

وكانت المياه عادت إلى الأهوار بعد عام 2003، بعد إزالة السدود الترابية التي بنيت في فترة رئيس النظام السابق صدام حسين، وعاد إلى المنطقة أكثر من 200 نوع من الطيور وعشرات الأنواع من الحيوانات البرية، فيما كانت الأمم المتحدة اعتبرت عمليات تجفيف الأهوار العراقية في تسعينيات القرن الماضي، من أكبر الكوارث البيئية التي حدثت في القرن العشرين، وتقارنها بما جرى في البرازيل من قطع الأشجار بحوض الأمازون.

سابقة خطيرة

العامان الماضيان، كانا الأشد قسوة على الأهوار بقضية الطيور المهاجرة، حيث شهدت الأهوار شبه انعدام لوصول هذه الطيور، بعد أن غيرت مسارها لمسطحات آسنة فيها مياه صرف صحي بالكويت، كما يكشف الخبير البيئي أحمد الصالح.

ويؤكد الصالح في حديث لموقع “الخط الأحمر”، أن هبوط الطيور في هذه المياه هي سابقة من نوعها، وذلك بسبب انخفاض مستوى مياه الأهوار، وفضلا عن هذا فأن بعض الطيور عبرت للجانب الإيراني أيضا، ونزلت في مياه ضحلة، حيث تركت إيران بعض المسطحات المائية. 

وبشأن أبرز أنواع الطيور التي تصل العراق خلال موسم الهجرة، وهو طائر البجع، فأنه لم يصل الأهوار منذ عامين، وفقا لتأكيد الصالح، الذي أشار أيضا إلى أن أعداد الطيور التي وصلت الأهوار قبل 5 سنوات، كانت بنحو 3 آلاف زوج من الطيور، وفي حينها كان مستوى المياه مرتفعا قليلا، لكن الأمر لم يستمر طويلا.

ويوضح أن “الطيور المهاجرة تأتي من الدول القريبة من القطبين، مثلا ألاسكا والدول الاسكندنافية، التي تشهد انخفاضا بدرجات الحرارة”.

ويلفت إلى أن “هجرة الطيور تبدأ من شهر آب وأيلول من كل عام، لكن ذروتها في أشهر كانون الأول وكانون الثاني وصولا الى شباط”، متابعا أن “الاشهر الماضية لم تشهد الأهوار نزولا لافتا للطيور المهاجرة”.

وحول أعداد الطيور سابقا، فأن الصالح يكشف أن “الطيور التي كانت تصل الأهوار بالملايين، ففي بحيرة واحدة، كان هناك صياد وخلال سحبة واحدة لشبكته اصطاد 1200 طير”.

ومن أبرز أنواع الطيور المهاجرة التي تصل الأهوار، هي: هازج قصب البصرة، والزقزاق أبيض الذيل، والنورس الأرميني، وغراب بحر القرم، والثرثار العراقي، والغطاس العراقي، والحذاف الرخامي، والوردة الأفريقية، والبجع الأبيض الكبير، وخطاف المستنقعات الملتحي، والأوز الأغر الصغير، والبلبل أبيض الخدين، والكوشر، والزركي، وأبو زلة، والمصو، والليروي، والفلامنكو، ودجاج الماء، والخضيري، اللقلق، البلشوت الرمادي والابيض، البغيلي، الفلامنكو والهرارة”.

والأهوار هي مجموعة من المسطحات المائية التي تغطي الأرض المنخفضة جنوب السهل الرسوبي لبلاد ما بين النهري في الجزء الأدنى من حوض دجلة والفرات، امتدت على مساحة أكثر من 20 ألف كلم، بين العراق وإيران، وعمرها يمتد إلى أكثر من 5 آلاف عام، ولها أهمية بيئية بالغة.

تردي نوعية المياه

كما يسرد كبير خبراء الاستراتيجيات والسياسات المائية، رمضان حمزة، خلال حديث لموقع “الخط الأحمر”، المشاكل التي تعاني منها الأهوار، وأدت في نتيجيتها إلى تغيير الطيور المهاجرة لمسارها، ومن هذه المشاكل، بالإضافة إلى المشكلة الرئيسية وهي شح المياه “تردي نوعية المياه في النهرين، نتيجة رمي الملوثات الصناعية ومياه الصرف الصحي غير المعالجة فيها، وتحكم الجانب الإيراني بتصاريف نهري كرخة والكارون، ودخول اللسان الملحي للمياه العراقية من الخليج العربي، وعدم وجود سياسات فعالة من الحكومة العراقية وغياب التنسيق بين بغداد والمحافظات الجنوبية”.

ويرى حمزة، أن هذه المشاكل أعلاه، أثرت على “التنوع البيئي والإيكولوجي في الأهوار”، لكنه يعرج على قضية أخرى، تتمثل بأن التغيير لم يتوقف على الطيور، بل شمل “أصناف الحيوانات في المياه العذبة بسبب دخول حيوانات أخرى من بيئة البحار من مياه الخليج العربي، مما يقضي على أنواع من الأسماك المشهورة في الأهوار، بسبب تغير ظروف التغذية والملجأ والتكاثر حيث كانت مناطق الأهوار مصادر طبيعية للمياه”.

وشهدت الأهوار سنوات سابقة من الجفاف القوي قبل أن ترويها من جديد مواسم الأمطار الغزيرة، وخاصة بين عامي 2020 و2022، حيث انخفض مستوى المياه والرطوبة لقرابة نصف مساحة الأهوار، من بينها الحويزة والجبايش، فيما جفت مسطحات مائية بالكامل، بحسب مسح قامت به منظمة باكس الهولندية غير الحكومية معتمدة على صور من الأقمار الاصطناعية.

وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) وافقت في عام 2016 على إدراج الأهوار في قائمة التراث العالمي، كمحمية طبيعية دولية، بالإضافة إلى مدن أثرية قديمة قريبة منها مثل أور وأريدو والوركاء.

الصيد الجائر

ورغم قلة اعداد الطيور المهاجرة، وتغيير مسارها لدول اخرى بعيدا عن أهوار العراق، فأن ما يصل منها لا يخرج سالما، بل يتعرض للصيد الجائر، دون وجود قوانين او قوات فعالة للحد من هذا الصيد، الذي بات يشكل تهديدا للنظام البيئي. 

فالنظام البيئي، قائم على التوازن بين الكائنات الحية، وكل كائن له وظيفة لحماية السلسلة الغذائية، والطيور المهاجرة لديها دور في هذا النظام البيئي، عبر نوعية تغذيتها التي تتركز على الأسماك الصغيرة وبعض الحشرات، كما يرى الخبير البيئي الأكاديمي محمد ابراهيم.

وفي حديث محمد لموقع “الخط الأحمر”، فأن الصيد الجائر لهذه الطيور يؤدي الى الإخلال بالنظام البيئي.

وفيما أرجع الأكاديمي هذا الصيد إلى “الجهل بالنظام البيئي وعدم الوعي لدى من يمارسه”، طالب بالحد منهعبر قوانين رصينة وعقوبات تصل الى السجن والغرامة، لغرض عدم المساس بهذه الطيور وتركها في الطبيعة، لما لها من أهمية بحماية النظام البيئي وإنعاش السياحة بالاهوار. 

وتعاني هذه المناطق الجنوبية من شبه انعدام لشرطة البيئة المرتبطة بوزارة الداخلية العراقية، وهي المسؤولة عن منع الصيد الجائر، حيث أن عدد عناصر شرطة البيئة في كل محافظة لا يتجاوز الـ20 عنصرا، ولا يمكلون الأدوات اللازمة لتنفيذ واجبهم ومواجهة القائمين بالصيد الجائر.

وكان مجلس الوزراء، قرر في عام 2014، اعتماد ذلك العام ليكون عام البيئة في العراق، وهي المرة الأولى في التاريخ المعاصر التي يتم التوجه فيها نحو تحسين البيئة، وفي ذلك الوقت دعت وزارة البيئة إلى رفع أداء ومستوى شرطة البيئة، وطالبت وزارة الداخلية بأن يكون ارتباط مديرية الشرطة البيئية مباشرة بوزارة البيئة وأيضا إتاحة الفرص لهم من خلال وزارتهم بمنح الترقية للضباط والمراتب العاملة فيها ليكون ذلك حافزا وعامل جذب واستقرار وظيفي للملاكات العاملة في هذه المديرية.

تهديد بالانقراض

وإلى جانب الطيور المهاجرة، فأن الأهوار تعاني من فقدان الطيور وبعض الحيوانات المستوطنة فيها، والتي دخلت بالقائمة الحمراء الدولية، لكونها مهددة بالانقراض، كما يؤكد الناشط البيئي رعد الأسدي. 

ومن الطيور والحيوانات العراقية في الأهوار، والمهددة بالانقراض، هي: كلب الماء، طائر أبو منجل، وبالإضافة إلى الطيور هناك السلاحف العراقية المعروف محليا باسم (الفرش)، ووفقا للأسدي فأن الأهوار أصبحت “بيئة طاردة للتنوع الأحيائي”. 

ويعود سبب تهديد هذه الكائنات بالانقراض، إلى شح المياه، حتى أصبحت هذه الكائنات “نادرة الوجود، وبعضها إن تمت مشاهدته يجب عمل تقارير كاملة عليه نظرا لندرته”، بحسب الأسدي.

“بالمحصلة، فأن تدهور الأهوار سيؤثر على الاعتدال المناخي للمنطقة ويسرّع عميلة تصحر وزيادة العواصف الترابية، مما يعمل على التراجع الاقتصادي في الأهوار بسبب شح المياه وتتوقف فعاليات الإنسان في الأعمال الزراعية مما يؤثر بشكل كبير على دورة الغذاء للحيوانات في بيئة الأهوار، وهذا ما يتطلب رسم سياسة شاملة في ظل هذه التحديات والمعوقات العديدة لتطوير المنطقة واستكمال البنية التحتية وضمان استدامتها بشكل سليم”، بهذه الكلمات يختم الأسدي حديثه. 

وفي هذا اليوم العالمي المخصص للطيور المهاجرة، فقد العراق نشوة الاحتفال به والتباهي بالطيور التي تصل أهواره وأعدادها المليونية، ليتحول الأمر إلى تباكي على زمن مضى، وكتابة نعي لأسراب الطيور التي لاذت لمستنقعات آسنة بدلا من مياه الأهوار، وكل هذا يجري دون أي حلول رسمية أو سعي لإعادة الحياة لأهم مسطحات مائية في العراق والمنطقة عموما. 

VIAالخط الأحمر