شارع بشار بن برد .. وصمة عار ظالمة تلاحق ساكنيه

’’ لا تزال شوارع ومناطق في مدينة البصرة تحتفظ بأسمائها القديمة بالرغم من تغييرها مع كل نظام سياسي يتسلم الحكم في العراق، لكن شارع بشار بن برد الذي لوثته بيوت قليلة امتهنت حرفة بيع المشروبات الكحولية والدعارة وهي بيوت على اصابع اليد، جعل اسم الشارع يثير سوء الفهم والنية لساكني المنطقة او من يزورها’’

شارع بشار بن برد، المدخل لمنطقة البصرة القديمة، ومن الشوارع المهمة في مدينة البصرة، محافظة عراقية تقع في اقصى جنوبي العراق، فيه سوق البصرة الشعبي، والعديد من المحال التجارية والمكتبات وصيدلية جبار القديمة، يثير أسمه الكثير من المغالطات وسوء النية والفهم… ما أن يذكر أسمه يزدريك المجتمع  بنظرة ريبة واتهام مخالفة للمعايير والاخلاق المجتمعية. 

بعد ساعات عمل طويلة ويوم صيفي  حار تجاوزت درجة الحرارة فيه  نصف الغليان تقف “ميسان” على الرصيف بانتظار سيارة أجرة لتوصلها لمنزلها… تتوقف احد سيارات الأجرة الصفراء لتصعد فيها، وعلامات التعب والارهاق تكسو ملامحها، تجفف قطرات العرق من  على جبينها.. يسـألها السائق ما هو العنوان؟ أجابته: “البصرة القديمة ثم تصف المناطق القريبة لعنوانها” .. يتأفف متبعاً كلامه بنبرة حادة اين بالتحديد؟

تتلعثم “ميسان”  ثم تجيب البصرة القديمة قرب شارع بشار

يبستم السائق وينظر لها عبر مرآته الامامية  “قولي شارع بشار من الاول”

لا تعير اهتماماً لكلامه بل تلجمه بنظرة تعبر عن التجاهل وتكتفي بكتم شعورها وتضايقها منه لم تعد تندهش لمثل هذه الردود  فهي ليست المرة الاولى ولا الاخيرة لمواجهتها هذا الموقف لطالما سمعت كلام وردود افعال بادئ الامر كانت تبررها الآن لم يعد يهمها غير أن تصل لمنزلها بسلام.  

ومع سرعة  دوران عجلة السيارة تدور الافكار في عقل “ميسان”  يلج السائق بالشوارع والازقة القديمة يمر بجانب عدد من البيوت المثيرة للاستغراب ينتابها شعوراً بالخجل، ثم يخرج السائق عن صمته يستغفر الله ومتمتم “لو يعطونني الملايين لن اسكن هنا”

غضبت “ميسان” لحظتها  واجابته “الناس مضطرة اين تذهب يعني”

’’ الاماكن الموسومة تصبح أكثر عرضة للاتهام والتحرش، فهي تجلب السمعة السيئة للنساء والرجال على حدٍ سواء’’

سكت السائق واكمل طريقه، المواقف في جعبة “ميسان” لا تنتهي، تستذكر “ميسان” أيام الدراسة و في مرة استيقظت متأخرة وأسرعت لتدرك ما تبقى للوصول الى المدرسة وباتخاذ القرار السريع والحاسم اتخذت الطريق المختصر، فشاهدها احد الجيران واعلم اهلها بذلك  وفي نهاية اليوم حدثت مشكلة بأن ممنوع على اي احد المرور بهذا الزقاق تحديداً فهو يجلب السمعة السيئة للنساء وللرجال ويلصق التهم غير الجيدة.

الباحثة الاجتماعية زهراء علي محمد، اشارت الى ان النساء أكثر عرضة نفسياً وعاطفياً للتنمر والاساءة، خاصة من يسكن في المناطق الريفية او الشعبية وبالتحديد “بالقرب من الاماكن الموسومة تصبح أكثر عرضة للاتهام والتحرش وتحمل على عاتقها مسؤولية التبرير الدائم، حتى وأن لم يثمر، فالصراع الداخلي الذي تعيشه يجعلها تفضل الانعزال وعدم الانخراط في المجتمع، لتحاشي الاسئلة والاجوبة وتجعل من هذا وسيلة وقاية وحماية لها، غير مبالية بآثاره النفسية في الحاضر والمستقبل”.  

اطلال الماضي وذكرياته

’’ ان الشوارع تبقى محتفظة بأسمائها القديمة مهما تغيّرت، الا ان  الناس لم تعتاد كثيراً على هذه التغيرات، ولم تنجح ظاهرة التدين لأسماء الشوارع’’

بعد تغيير نظام الحكم سنة 2003 وانتشار موجة تغيير أسماء شوارع المدن بأسماء ورموز دينية  لتليق بالتوجيهات الجديدة، كان لهذا الشارع “بشار بن برد” نصيب في ذلك وتم تغيير اسمه لـ “شارع علي بن يقطين” احد وزراء هارون الرشيد وموالي للأمام الصادق سراً، الا ان  الناس لم تعتاد كثيراً على هذه التغيرات، ولم تنجح ظاهرة التدين لأسماء الشوارع فالعلاقة الغريبة والمثيرة للدهشة لتولد هذه الصدفة لطبيعة ما عاشه الشاعر بشار بن برد (168_96) هجرياً  الذي أشتهر بالغزل الماجن  في كثير من شعره توافقاً مع الطبيعة العباسية وانحرافه عن الدين والميول للهفوات، التي أدت به الى زندقته السياسية وتلونه ومناصرته للخلفاء حسب مصلحته، الصدفة ام القدر من جمعت الشاعر الكفيف  والمتهم بالزندقة بشارع تضمن عدد من بيوت الدعارة وبيع المشروبات الكحولية في الوقت الحالي، فالشارع مازال مضرب للمثل الا ان حاله ليس  كالسابق.

يجلس في منتصف دكانته الصغيرة معظم يومه ليقتل الوقت، رسمت على وجهه تجاعيد السنين وذاكرته المليئة بأسماء المناطق والناس والذكريات التي لا تعود، يشير ملوحاً بكف يديه المرتعشة وصوته المثقل بالماضي يبدأ “ابو حيدر” ذو السبعين سنة من عمره بتعداد اسماء مناطق البصرة القديمة فعلى يمينه السيمر ويحيى زكريا وخلفها المجصة وتتبعها الخليلية، وثم يذكر منطقته الساكن بها الگطانة، والتي كانت سابقاً تعج بالندافين وصواغ الذهب وبيوت الشناشيل التي تركها اصحابها القدماء من الشخصيات المعروفة، كالقاضي وناجي ابو العشر وفي ركن المنطقة فرن الصمون وبجانبه مخبز وبحسرة وتنهيدة يقول ابو حيدر: “الآن معظم البيوت مهجورة ومعروضة للبيع منذ سنين، لا أحد يقدم على شرائها فهذه المنطقة تحديداً تعج ببائعي الخمور وبيوت متفرقة للدعارة، فلا تستطع امرأة ان تمر بهذا الفرع تجنباً للشبهات والمضايقات من المتعاطين للشرب، فأنا اول الناس لو كنت أملك مالاً يكفي لشراء منزل آخر لرحلت.. انتظر تعويض الدولة لإصابتي وشلل قدمي اليمنى في انتفاضة شعبان 1991، مكملاً جملته  ونفس الحكومة طويل عمرنا يخلص واحنة ننتظر”.

يتابع “ابو حيدر” حديثه انا اقدم شخص في المنطقة وقضيت ايام طفولتي ورأيت العجب، “في فترة  التسعينات اعدمت عدد من النساء، بسبب امتهانهن الدعارة، من قبل النظام السابق ونظف الشارع لفترة ثم عاد كل شيء كما كان، لكن بنسبة قليلة، وبعد السقوط لفترة عدم وجود قانون وحكومة، عمت الفوضى من جديد وعندما تولت الحكومة الجديدة  السلطة قلت البيوت المشبوهة والمتعاطين للخمر، الا ان السمعة بقيت على هذا الشارع، احرص على عائلتي كثيراً بعدم خروجها واختلاطها ونأخذ الطرق الطويلة تجنباً ولتحاشي أي مشكلة مع من يرتاد هذه المنطقة، فلا اتحمل ان يمس احدهم بسوء فعل او كلمة”.

 لم تخونه ذاكرته “ابو حيدر” في حفظ اسماء الجوامع والحسينيات التي تراوح عددها لأكثر من 30مسجد، اهمها الجامع الكبير والميرزا  وجامع الفقير والمحسن وجامع آل شبر وجامع السيد ناصر وسيد عقيل والمعرفي والفيلي والكواز وحسينية الخليلية والحاج اسود… لم يتبقى لأبو حيدر من الماضي الجميل سوى عناوين واماكن خزنت في ذاكرة عقله وبقيت البيوت التي كانت تغنى برقيها اطلالاً مهملة يمر بجانبها وجوهاً غريبة لا ترى من الحاضر سوى سمعته الموسومة.      

الناشط المدني محمد زنگنة، يقول للخط الاحمر: “ينظر المجتمع للناس القاطنين بمناطق مشبوهة بنظرة دونية، ودائماً يكونون عرضة للإساءة من بعض الناس، خاصة اذا تمت حملات تفتيش على هذه المناطق، ممكن جداً البريء والذي لم يفعل شيء فقط لسكنه يتعرض للاحتجاز والاساءة والتنمر”.

النساء أكثر عرضة للوصمة المجتمعية     

’’ لو علم بشار بن برد بأن النساء يساء لهن باسمه هل يكتب الشعر غزلاً بهن ام يهجو الرجال بقصيدة ليلعنوه بسببها!’’

خلف ابواب احدى البيوت لا تسمع الا الصراخ وبكاء الأطفال والشتيمة بأبنة بشار(شارع بشار بن برد) ووجها مليء ببقع زرقاء لا تقاوم ولا تعترض، تضمد ورم وجهها بقطع الثلج، تتنهد وتذرف الدموع بصمت… تتذكر “حوراء احمد”  اول مرة جاء لخطبتها مع اهله وفي جيوبهم الكثير من الوعود بأن لا تهان ولا تظلم ولا تمس كرامتها، لكن بعد شهر من الزواج، تلاشت الوعود، واظهرت حقيقة ما كان في الجيوب، في اول سوء فهم ناداها بأبنة بشار معايراً لها على اسم الشارع القريب من منطقة سكن اهلها قبل الاقتران به، شكت لوالدها ما قاله لم تسمع الا كلمات الصبر والتهوين ومبررات عادي زلة لسان فهل انتِ فعلا أبنة بشار!.

بعد شهور وأسابيع وسنين زلة اللسان تطورت لزلة يد واتهامات وقذف فاعتادت “حوراء” على تلك الزلات واعتاد زوجها وأهله على قولها وفعلها تبتسم للقصيدة التي قرأت على مسمعها فترة الخطوبة:

يا قَومُ أُذني لِبعَضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ وَالأُذنُ تَعشَقُ قَبلَ العَينِ أَحيانا

للشاعر الذي هي الآن وصمت بأبنته وتقول في سرها 

لو علم بشار بأن النساء يساء لهن باسمه هل يكتب الشعر غزلاً بهن ام يهجو الرجال بقصيدة ليلعنوه بسببها!.

ومن وجهة نظر محمد زنگنة أن النساء أكثر فئة تتعرض لـ”الوصمة المجتمعية” فالرجال اقل عرضة لذلك، ووارد جداً ان تتعرض المرأة للوصمة المجتمعية والتحرش والعنف اذا كانت تسكن في المناطق الموصومة، ومحتمل جداً هذا الشيء يأثر بشكل كبير على سمعة المرأة ووضعها مستقبلاً خاصة في أختيار الشريك المناسب لها وارتباطها بشخص خارج منطقتها، ومتوقع ان تتهم وتقذف من قبل زوجها او اهله او اقرانه بسبب “عنوان سكنها قبل الزواج”، وللأسف ان “مجتمعنا سطحي” لا ينظر للأمور بعمق ولا يأخذ الأمر ان كل شخص يمثل نفسه.

العار والخجل شعور يلازم  المناطق الموصومة

’’ بعض الاشخاص الذين يسكنون بقرب هذه المناطق، لا يريدون ان يبينوا للآخرين اين يمكثون، وذلك بسبب شعورهم بالعار والخجل’’

يمسك هاتفه المحول يتصفح التعليقات  ويقرأها يطلق زفيراً .. متمتاً متى نتخلص من هذه القصة  

 يتصل عليه المندوب لإيصال بضاعته يدله على العنوان يخبره  بعدم استدلاله عليه  يجيبه “مصطفى”  باسم المنطقة “شارع بشار” يرد عليه المندوب بأي صعدة؟ يجيبه الصعدة الاولى واتوكل بالله.

يستلم  البضاعة لمحله ويكمل القراءة يفكر بالرد ويتراجع، قائلاً لنفسه وماذا سيتغير يكتبون “شارع بشار ابو العرگ” ويصفونه بكلمات تثير الاشمئزاز سأتجاهل افضل لي.

يتذكر الشاب “مصطفى كاظم” صاحب محل كوزمتك، ذو العقد العشرين من عمره  حين قرر الزواج عندما سأله والد الفتاة بأي منطقة تسكن، تردد قليلاً .. ثم اخبره المنطقة الفلانية شارع بشار، صمت اب الفتاة وقال له بوجه انطفأت الابتسامة منه يا ابني مصطفى هذا شارع عليه سمعة كيف اعطيك بنتي لتسكن فيه، وبعد مناقشات وحوارات وسبل اقناع قبل والد الفتاة بالزواج، مصطفى ليس اول شاب يواجه صعوبة في الارتباط بسبب وصمة الشارع فأقرانه كثيرين احدهم ترك المنطقة ليحصل على فرصة الزواج.

يقول مصطفى كثير من اصدقائي من غير المحافظة او خارج المنطقة  لا يعرفون عنوان سكني “تجنبا لسماع شيء يعكر مزاجي”، ومررت بموقف استغربته عندما اراد صديق القدوم للبصرة لإكمال معاملة له، فأردت استضافته وعندما أخبرته بعنواني اجابني نعم أعرفه فلقد اتيت لهذا الشارع مسبقاً، فأغلب الناس يعرفون هذا الشارع لما يقال ويؤول عن ساكنيه. 

“مصطفى” تعودنا على ما نسمعه عن الشارع او نقرأه لكن الصعوبة تكمن عندما آخذ عائلتي، اضطر لقطع مسافة اطول تلافياً لموقف محرج، مرة اوقفتني سيارة من بعض الأشخاص  الذين يبيعون المشروبات الكحولية ظناً منهم شيء آخر لجمت غضبي حينها احتراماً لعائلتي فمجرد المرور من تلك المنطقة الف سوء فهم اواجه.

وبهذا الصدد، يقول زنگنة “بعض الاشخاص الذين يسكنون بقرب هذه المناطق، منهم لا يصرح ويعلن سكنه، لأنه لا يريد ان يبين للآخرين اين يمكث بسبب النظرة الدونية لهذه المناطق، وشعور هؤلاء الاشخاص بالعار والخجل”، ويسترسل “الانسان لا تحدده المنطقة ولا من يكون بل اخلاقه وافعاله التي لا تسيئ للمجتمع تجعله محترم بعيد عن كل هذه التسميات”.     

يتابع زنگنة لتوعية المجتمع يجب علينا ان نغير اتجاه رؤيتنا بتحديد معايير واخلاقية الفرد حسب موقعه الجغرافي فهذه ليست معادلة ثابتة، ممكن شخص سيء يسكن مناطق راقية وبعيدة عن الشبهات، قد تكون من ارقى المناطق في العراق، وهو يفعل ويمارس اشياء سيئة وايضاً الظروف المادية لم تسمح له في السكن في مناطق افضل او غير موصومة او هو مولود بهذه المنطقة وطرأت عليها متغيرات جعلتها تصبح ماهي عليه الآن. 

تنوه زهراء من واجب الجميع العمل على مكافحة خطاب الكراهية والتنمر، التي تدس السم بالعسل، وتأثيرها غير المباشر ببث و أدلجة العقول بأفكار نمطية وتحجيم الفرد واخلاقيته ببقعة جغرافية وتساعد على ارتكاب اعمال العنف وتشجيعها، و ثمة طرق عديدة لمكافحة خطاب الكراهية ومنعه، من بينها رفع مستوى الوعي من خلال اجراء دورات تدريبية محلية وتثقيف الاصدقاء وافراد العائلة بشأن مخاطر التمييز والنظرة الدونية من خلال الابلاغ عن منشورات وسائل التواصل الاجتماعي التي تنشر الشائعات او المعلومات الخاطئة.

VIAنغم مكي