’’تكمن أهمية الآثار في قيمتها العلمية والتاريخية والثقافية، لذا عندما تجوب المناطق الأثرية في ذي قار سترسم صورة في مخيلتك عن ميزة العظمة والذكاء التي سادت البلاد قبل الميلاد، وتضم محافظة ذي قار نحو 1200 موقع آثاري يعود معظمها إلى عصر فجر السلالات والحضارات السومرية والأكدية والبابلية والأخمينية والساسانية والعصر الإسلامي، ولو اهتمت الحكومات بعد 2003 لآثار ذي قار لأصبحت مورداً اقتصادياً وثقافياً، لما لهذه الآثار المهملة من أهمية تاريخية ودينية للعالم’’

مطعم صغير يعود تاريخه للعام 2700 قبل الميلاد، اخر مكتشفاً آثاريا أعلنت عنه بعثة جامعة بنسلفانيا الامريكية في “مدينة لكش” الاثارية التي تقع شمال مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار جنوبي العراق، وهو جزء من مكتشفات كثيرة لازالت مدفونة في هذه الأرض.

مدينة لكش اكبر موقعا اثاري على مستوى الوطن العربي، اذ تبلغ مساحته الكلية 25 كيلو متر مربع وهذه المساحة الشاسعة لم ينقب منها سوى اقل من 5%، بسبب سعة المساحة والتفاوت في فترات التنقيب رغم انه يعد واحد من أولى المواقع التي تم التنقيب فيه منذ عشرينيات القرن الماضي الى ان انقطعت في عام 1984 بسبب الظروف التي مرت بها البلاد، نتيجة الحرب العراقية-الإيرانية، وما تبعها بعد ذلك حتى استأنفت بعثة جامعة بنسلفانيا أمريكية عملها عام 2019  وشهد هذا الموقع عام 1976 وفاة منقبة اثارية أمريكية اثناء انتقالها الى الموقع لان المكان محاطاً بالمياه، حيث اصطدم الزورق الذي ينقلها مع زورق اخر جاء بشكل معاكس مما سبب وفاتها اذ ضربة الاصطدام جاءت براسها وفقا لكلام احد الباحثين الآثاريين العراقيين.

لكش الدويلة السومرية واحدة من المواقع الاثارية على لائحة الـ 1200 موقع في ذي قار فقط وتعود لحقب زمنية مختلفة، لتمثل هذه المحافظة متحفاً متكاملاً عالمياً من الاثار، وهذا العدد الهائل من المواقع لم ينقب منه سوى نسبة بسيطة لا تشكل حتى 1% اذ تبلغ المواقع المنقبة هي 8 مواقع فقط.

المدينة الاقتصادية للسومريين

’’تل جوخا الموقع الآثاري المصنف كمدينة اقتصادية خلال حقبة السومريين، نال النصيب الكبير من عمليات السرقة المنظمة’’

هذه المواقع تعرضت للنهب والتخريب خلال حقبة التسعينيات وما بعد 2003 نتيجة الفراغ الأمني حتى 2005، اذ ان السنوات الثلاث بعد تغيير النظام شكل خرقاً كبيراً للواقع الآثاري، وقد تعرض تل جوخا الآثاري للسرقة بشكل مفرط، ويعد موقعاً مهماً يصنف كمدينة اقتصادية خلال الحقبة السومرية بحسب مدير مفتشية اثار ذي قار شامل الرميض اذ بلغت عدد الحفر التي حفرها اللصوص لغرض الحصول على الاثار قرابة 2000 حفرة، وعمق الحفرة الواحدة يصل لأكثر من مترين حتى أصبح المكان خلال تلك الفترة اشبه بالمركز التجاري اذ اقام تجار الاثار بوضع خيم وأدوات حفر حتى تدخلت القوات الامريكية آنذاك عبر طائرات الاباتشي ووجهت بتشكيل قوة امنية لحماية الموقع.

ويكمل الرميض بان المحافظة تضم اثار كثيرة تعود لعدة حقب تاريخية منها السومرية والاشورية والإسلامية الا ان ابرز موقعا في الوقت الحالي هو زقورة مدينة اور والتي تم تسجيلها مع موقع اريدوا عام 2016 ضمن لائحة التراث العالمي اليونسكو وهذا العدد الهائل من المواقع لا يحرسها سوى 145 حارس امني يتواجدون داخل 70 موقع أي ان 6% من مواقع المحافظة محمية امنيا وليس بالمستوى المطلوب. وان اهم مواقع المدن القديمة والمشهورة تاريخياً تم التنقيب فيها هي اور واريدو ولارسا وجوخا ولكش وتل زرغل وتلو وتشكل المدن الخمسة الأولى الأكبر مساحة حتى الان بحسب المكتشفات اذ تبلغ اجمالي المساحة 75 كيلو متر مربع.

الكلاشنكوف لا يكفي للحماية

امير دوشي، وهو باحثاً ومترجماً في الشأن الآثاري، بيّن “للخط الأحمر” بان ذي قار تمثل متحفاً آثارياً  كبيراً نتيجة كم المواقع التي تضمها، ورغم هذه الاعداد الا ان أساليب وطرق حمايتها لازالت بدائية. اذ ان “اللصوص دائما ما يطوروا من أدوات السرقة، بينما الحارس الامني لازال متمسكا بسلاح الكلاشنكوف وله أوقات محددة للتواجد بالموقع، في الوقت الذي يجب ان تتوفر هناك أدوات أخرى كالطائرات المسيرة والكاميرات الحرارية وغيرها”.

’’الجفاف الذي شن في السنوات الخمس الاخيرة هجومه على العراق، والسكن العشوائي بدون رقابة بالقرب من المواقع الاثرية ما هي الا عوامل سلبية تؤثر على المواقع الاثرية’’  

الاثار تتعرض للتهديد، ليس من مخاوف السرقة او التخريب فقط، بل ان المتغيرات المناخية لها اثاراً سلبية خصوصاً في السنوات الأخيرة فظاهرة التصحر وقرب الكثبان الرملية عليها والسكن العشوائي بالقرب منها جميعها تؤثر بشكل او باخر على هذه المواقع، حسب ما حذر منه دوشي. 

عدم الاهتمام الحكومي بملف الاثار نتيجة عدم استقرار الواقع الحكومي ما بعد 2003 وحتى الان، فهي اشبه بفاقدة الهوية اذ انها تعيش أزمات سياسية متتالية، بالإضافة الى عدم الاستقرار الامني، لذا تجدها غير مهتمة بشكل كبير للأثار فضلاً عن كيفية توظيفها بشكل إيجابي للاستفادة منها كمورد مالي في الجانب السياحي، موضحاً دوشي ان “الكشف عن الاثار لا يضيف شيء جديد للأجيال الحالية من الناحية العلمية سوى انها تعطي توضيحاً عن كيفية بدأت المستوطنات في هذه الحضارة، وكيف كان عيش مجتمعاتهم وتجاراتهم، ويكشف ان التنقيب في العراق يعد اشبه بشهادة الخبرة للمنقبين الأجانب  بحسب العالم الآثاري الإيطالي ماسيمو “فلا يعد المنقب آثاريا اذا لم ينقب في بلاد الرافدين”.

التغير المناخي والآثار

التغييرات المناخية كشفت مؤخراً عن عدة مواقع في مناطق مختلفة من العراق، اذ ان موسم الجفاف لعام 2022 كشف في بحيرة سد الموصل عن مدينة زاخيكو التي تعود الى العصر البرونزي للإمبراطورية الميتانية التي حكمت شمال نهر دجلة والفرات بين عامي 1550 الى 1350 قبل الميلاد.

فيما كشف الجفاف أيضاً في جنوب العراق بأهوار الناصرية عن ستة انواع من المواقع الاثارية، بحسب استاذ علم الجغرافيا الدكتور رحيم عدنان، اذ ان فريق بحثي مشترك من كلية الآداب بجامعة ذي قار وكلية اثار جامعة القادسية تمكنوا من تمييز المناطق القديمة حيث كانت مغمورة بالمياه وهي عبارة عن مستوطنات وقنوات ري وانهار قديمة وحقول زراعية واثار فيضانات.

السرقات والنهب لم تقتصر على لصوص محليين، بل هناك من يحمل جنسيات اجنبية دخل العراق بصفة سياحية اذ تم توقيف سائحين أجنبين عام 2022 احدهم بريطاني والثاني الماني بتهمة تهريب قطع اثارية، اذ تم ادانة البريطاني بالحكم 15 سنة، فيما تم براءة السائح الالماني لعدم كفاية الادلة، وبعدها تم تمييز الحكم الصادر بحق البريطاني من جديد لنيال البراءة والافراج عنه، وكان البريطاني فيتون يحمل في حقيبته 10 قطع أثرية هي عبارة عن كسارات سيراميك وفخار بغالبيتها، فيما كان بحوزة وولدمان الالماني قطعتان فقط الا ان رفيقه اثناء الرحلة سلمه إياهما.

وان القانون العراقي بحسب مواده شدد في عقوباته بالسجن، اذ نصت المواد يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن 7 سبع سنوات ولا تزيد عن 15 خمس عشر سنة من سرق اثراً او مادة تراثية في حيازة السلطة الاثارية وبتعويض مقداره 6 ستة أضعاف القيمة المقدرة للأثر او المادة التراثية في حالة عدم استردادها، وتكون العقوبة السجن المؤبد اذا كان مرتكب الجريمة من المكلفين بإدارة او حفظ او حراسة الأثر او المادة التراثية المسروقة، وتكون العقوبة الإعدام إذا حصلت السرقة بالتهديد او الإكراه او من شخصين فأكثر وكان احدهم يحمل سلاحاً ظاهراً او مخبأ، ويعاقب بالإعدام من اخرج عمداً من العراق مادة اثرية او شرع في إخراجها.

اكثر من ربع مساحة ذي قار هي اثارية بامتياز

’’هنالك مواقع أثرية أخرى لا تزال من دون تنقيب ولم تصلها يد البحث، واذا تم التنقيب فيها، فمن المؤكد انها تكون بمثابة عنصر مهم لإثراء أو تصحيح بعض المعلومات الاثارية’’ 

وإذ ما تم اخذ اصغر مساحة لموقع اثاري في ذي قار مع محرمات الأرض ليبلغ 3 كيلو متر مربع وقياسها على جميع المواقع الـ 1200 بذات المساحة الصغيرة واحتساب اجمالي النسبة مع مساحة محافظة ذي قار البالغة 12900 كيلو متر مربع ليتضح بان الاثار تشكل 28% من مساحة ارض المحافظة أي ان اكثر من ربع المساحة هي اثارية وهذا الرقم اقل بكثير من الواقع بحسب خبراء في مجال الاثار.

المنقب الآثاري عامر عبد الرزاق يجد ان البعثات التي تعمل في الوقت الحالي “تحتاج الى عشرات السنين للكشف عن مكنون هذه المدن”. زيارة بابا الفاتيكان الفريدة من نوعها الى مدينة اور الاثارية واقامة الصلاة الابراهيمية عند بيت النبي ابراهيم الخليل عليه السلام، فتحت ابواب الاهتمام العالمي بالمدينة وبمواقعها الاثارية، وزاد من نسبة السائحين للاطلاع على اثار ذي قار، خصوصاً وان الاكتشافات الاثارية التي افرزتها البعثات التنقيبية الاجنبية تشير الى اثار قديمة هي الاولى من نوعها كجسر عبور هو الاول في التاريخ بمدينة كرسو انشأ تقريبا 2400 قبل الميلاد وان امتداد هذا الجسر يصل الى حوالي 12 متر وعملت عليه البعثة الفرنسية وايضاً العثور على اثر اسلامي في مدينة كبيبة الاثارية بقضاء الرفاعي شمال الناصرية وهو عبارة عن مسجد يعود للعصر الاموي وتحديدا للعام 60 للهجرة يتسع لـ 25 مصلياً وقد عثرت عليه البعثة البريطانية.

VIAمرتضى الحدود