بين القصب والماء تقضي أم كاظم (64 عاما) أغلب وقتها في عمق الأهوار جيئة وذهابا من أجل إيصال الحليب إلى زبائنها، حيث تقطع الطريق عبر المشحوف (وسيلة نقل مائية معروفة في الاهوار العراقية) يوميا وهي محملة بالحليب لبيعه ثم الاستعداد ليوم جديد من الرحلة اليومية في الأهوار

على هذه الحال، تعتاش أم كاظم مع عائلتها الكبيرة وهي من سكنة أهوار قضاء الجبايش (70كلم جنوب شرق ذي قار) على بيع الحليب منذ أكثر من 12 عاما وهو مصدر رزقها الوحيد، إذ تقوم بصناعة الحليب من الجاموس الذي لديها عبر مراحل عدة بعدها تقوم بالتنقل بين المناطق من أجل بيعه حيث تمتلك السيدة الكبيرة بالسن علاقات واسعة من خلال تجارة الحليب. 

تقول أم كاظم خلال حديثها للخط الاحمر، بإنها “تواظب على هذا العمل منذ أكثر من 12 عاما، وحليبها الذي تقوم بصنعه في البيت بمشاركة أفراد أسرتها يعتبر من النوعية الجيدة وهناك زبائن محددين لديها لبيعه وهي مقتنعة ما تحصل عليه من مبالغ مالية جراء هذا العمل وتحلم بأن يكون هناك دائما طلب على حليبها لكي تعيش بسلام بدون أزمات أمنية أو اجراءات وقائية صحية بالمستقبل”.

تضيف أنها “خلال فترة التظاهرات التي حصلت في تشرين 2019 قد أثرت بشكل كامل على بيع الحليب كون أغلب زبائني من المدن وكان الوصول اليهم صعبا، ثم تلتها فترة حظر التجوال وكورونا ومخاوف اغلب الناس من الحليب او الصناعة المنزلية لكن لاحقا إعتاد الناس على الموضوع وعاد نشاطي في بيع الحليب لكن ليس كالسابق حينما كانت الأوضاع طبيعية”.

ومثل أم كاظم، تقضي حليمة سوادي أغلب وقتها أيضا في قلب الأهوار فهي تعمل في صيد الأسماك، حيث تمتلك مشحوفا خاصا بها وأدوات صيد وتنافس الصيادين في الصيد، فهي صيادة ماهرة تعرف اماكن ومواقع الأسماك في الأهوار، إذ تدخل لمسافات طويلة في عمق الاهوار من أجل الصيد وحينما تنتهي منه تبيعه في السوق.

هناك العشرات من النساء ممن يعملن في الأسواق الى جانب الرجل في مناطق الأهوار حيث تكون الأعمال تشاركية في هذه المناطق لا فرق بين الرجل والمرأة. 

الأهوار.. حياة بسيطة وخاصة

تبلغ مساحة الاهوار أكثر من 35 ألف كيلومتر، وتقع في ثلاث محافظات وهي البصرة وميسان وذي قار، وتحتضن ما يقارب 370 كائنا حيا ما بين طيور وحيوانات زاحفة وداجنة وحيوان الجاموس، وتتوزع الأهوار بشكل رئيسي لأهوار الحويزة وأهوار الحّمار الشرقي والغربي والأهوار الوسطى.

يعتبر مجتمع الاهوار واحد من أقدم المجتمعات التي استوطنت في بلاد وادي الرافدين قبل آلاف السنين، ففي هذه الأرض التي يحيط بها الماء من جميع الجهات عاش السكان هنا وأصبحت لهم عادات وتقاليد خاصة بهم تختلف عن التجمعات البشرية الاخرى التي استوطنت في أماكن أخرى من مدن جنوب العراق. 

وامتاز سكان الاهوار بحياتهم البسيطة التي ترتبط بشكل أساسي بالماء وحيوان الجاموس الذي يشكل جزءا من ذاكرة الناس ومصدرا للحياة، ومنذ تواجدهم في هذه البقعة لا يزال يحتفظ السكان هنا بإرث أجدادهم فيما يتعلق بطبيعة عيشهم وحياتهم اليومية إذ لا يختلطون كثيرا بسكان المدن حيث كانت حياتهم الخاصة تجعل منهم منعزلين وقليلي التواصل لكن لاحقا تغيرت الحياة بعد الجفاف ومعارضة نظام صدام.

تمثل المرأة في مجتمع الأهوار عمودا أساسيا مشاركا وصانعا للحياة، فهي تشارك في بعض الصناعات والحرف القديمة، كما دخلت مجال الصيد وبيع الاسماك، وظهرت بشكل واضح خلال السنوات القليلة الماضية في الأسواق في بيع الألبان سيما القيمر ولبن الجاموس والذي له نكهة وطعم خاص.

وعلى الرغم من تصاعد العنف ضد النساء في العراق خلال السنوات القليلة الماضية، الا أن مناطق الاهوار كانت قد سجلت نسب منخفضة من ظاهرة العنف بسبب دور المرأة الأهوارية في العمل والسوق ومشاركتها في الحياة الاقتصادية ودورها الفاعل في الحياة اليومية كجزء منتج.

مكانة اجتماعية ودور اقتصادي

تبدو بيئة الأهوار التي تغطي مساحات واسعة من محافظات ميسان- البصرة- ذي قار، كبيئة واحدة لا تختلف عن الاخرى، يعيش السكان هناك بنفس نمط الحياة اليومية التي يشغل فيها تربية الجاموس وصيد الأسماك وبيع الأجبان والحليب وصناعة الحصران وجز القصب وتربية الجاموس كما يقول الناشط البيئي ورئيس منظمة الجبايش للسياحة البيئية رعد الأسدي للخط الاحمر.

ويضيف أن “المرأة الاهوارية لديها مسؤولية وأعباء كبيرة، فبالإضافة الى كونها ربة بيت فمن ضمن مهامها والتي توارثتها من النساء اللواتي سبقوها، صناعة الحصير وبعض الادوات المنزلية التي تدخل ضمن اثاث بيوت سكان الاهوار، كما أن من ضمن المهام الملقاة على عاتقها جلب القصب الذي تنقله عبر المشحوف والذي يدخل بدوره ايضا في صناعة اغلب الأشياء المهمة في استعمالات سكان الاهوار اليومية” .

وتمتلك المرأة في الاهوار مهارات مختلفة في الحرف اليدوية القديمة والتي ورثتها من الأجداد، فهي بارعة في صناعة حصيرة القصب المسماة (البارية) والتي تأخذ أشكال وأحجام مختلفة.

ويتابع الاسدي، “المرأة الأهوارية برعت أيضا في صناعة تنور الطين الذي تكون مادته الاولية الرئيسية من التربة الرطبة وبعض المواد الأخرى مثل مادة (النفاش) الذي يدخل في صناعته ويستخدم في التنور الخبز وشوي الأسماك، كما برعت أيضا في صناعة المروحة اليدوية المشهورة بـ(المهفة)التي عرفها العراقيون أيام الحصار اضافة لسلال حفظ الطعام”.

تحديات كبيرة 

يؤكد رئيس المنظمة، أن “المرأة تواجه تحديات كبيرة من ضمنها الأعمال اليومية الشاقة التي تقوم بها المرأة الاهوارية بدون توقف كذلك غياب الدعم الذي يتعلق بالتوعية والذي أدى إلى انتشار الأمية بشكل كبير بين نساء الأهوار وأيضا قلة الإرشاد الصحي، وهذا كله أيضا كان بسبب غياب البرامج التي تتعلق بالمرأة وتمكينها في هذه المناطق”.

يتابع، “كذلك هناك عادات وتقاليد وأعراف تساهم بشكل واضح على دور المرأة وتحد من دورها الكبير، صحيح أن هناك دور كبير تقوم به لكن تلك الاعراف تحد من دورها في كثير من الاحيان”.

توضح رئيس منظمة أور للمرأة والطفولة، منى الهلالي، أن “التحديات التي تواجه المرأة في الأهوار تتمثل في نقاط عدة أبرزها عدم وجود أسواق لبيع منتجاتها وتصريفها كون اقتصاد الأهوار يعتمد على النساء وأيضا البعد عن مركز المحافظة حيث يساهم في عدم حصولهن على الرعاية الصحية والتعليم والتدريب والتمكين”.

وتؤكد الهلالي في حديثها للخط الأحمر، أن “نساء الأهوار تمتاز بقوة الشخصية والشجاعة والاعتماد على النفس ويلاحظ  ذلك من خلال تواجدها في صيد الأسماك وقيادة الزوارق وتربية المواشي، وأهم المشاريع التي من الممكن أن تستفاد منها النساء هي معمل إنتاج مشتقات الحليب ومعمل للصناعات اليدوية التي قاربت على الاندثار منها البسط والسجاد والخوص”.

وتشير الهلالي إلى أن “المرأة هناك تحتاج الى رفع الوعي بحقوقهن وطرق وصولهن للعدالة والحد من زواج القاصرات والزواج القسري والانخراط في التعليم من خلال توفير مدارس مناسبة وقريبة للفتيات وتفعيل قانون التعليم الإلزامي”.

ومن التحديات التي تواجهها النساء كما تقول الهلالي، هي “شحة المياه التي تساهم بالهجرة وهلاك الحيوانات خاصة الجاموس ومياه شرب والتغييرات المناخية، تطوير السياحة البيئية وتوفير فرص عمل للنساء والشباب من شأنه أن تساهم في تنويع دخل الإسرة وتوفير فرص معيشية إضافية للمجتمعات المحلية وسوق بيع منتجات النساء الصناعة واليدوية”.

وفيما يتعلق بالتمكين، أشارت الهلالي إلى، أنه “من المفترض أن يكون هناك جهد حكومي ضمن الخطة الثانية للقرار 1325 وما يتعلق بتوسيع مشاركة النساء والحماية والوقاية أيضا وهي ضمن خطط التمكين الاقتصادي للنساء، وفيما يخص موقف المنظمات الخاصة بالمرأة فأن ضعف التمويل الدولي والحكومي ساهم في تقليل فرص الوصول للنساء في هذه المناطق”.

أما مشاريع إنعاش الاهوار التي كانت تطلق في الخطط الحكومية على مدى السنوات الماضية، كما تضيف الهلالي، “فهي لم تركز على تمكين النساء ودعمها وفي حال توفرت فرص التمويل، من الممكن أن يتم شمول النساء في هذه البرامج”، حسب قولها.

المرأة وحقوقها في القانون العراقي

يؤكد الحقوقي علي حسين جابر، أن “الحقيقة أن المرأة لازالت هي الحلقة الأضعف التي تواجه نتائج الأزمات الوخيمة التي تمر في المجتمع العراقي فهي مكشوفة الهدف بلا سند يحميها ولا سلاح بيديها يدرئ عنها مظالمها حيث تواجه المرأة  تشريعات مرت عليها عدة عقود ومؤسسات لازالت تعاني غياب الوعي الحقوقي والمؤسسي”.

ويؤكد جابر في حديث للخط الأحمر، أن “عند مراجعة نص المادة ٤٠٩ من قانون العقوبات العراقي رقم ١١١ لسنة ١٩٦٩ لمعدل سنجد أن ذلك القانون يشرعن لتمييز كبير ضد المرأة بأن يعطي عذرا قانونيا لعقابا مخففا لمن يقتل زوجته أو أحد محارمه بمجرد انها ارتكبت فعلا مخلا بالاعتراف والتقاليد في ظرف قد يكون الجاني قد استغل طيش أو حالة ضعف أو قصر في عمر وتجربة المرأة أو الفتاة حيث حدد التشريع عقوبة قد تصل لثلاث سنوات من الحبس فيما لو كانت المرأة فعلا قد ارتكبت الفعل المخل بالحياء”.

ويتابع جابر “لكن الأشد غرابة أن المادة أصبحت عذرا لاستهداف النساء التي تخالف الرغبة الذكورية القاهرة داخل الأسرة وقسرا فأصبح بعض أقارب المرأة ممن هم على مصلحة في تغييب إرادة المرأة بالزواج أو العمل القسري أو ترك الدراسة يلفقون التهم على النساء اللاتي يصرن على إرادتهن الحرة وبالتالي ينتهي بهن الأمر إلى القتل بداعي الانتحار أو جرائم الشرف الملفقة والمؤلم أن كثير من النساء قد أنهيت حياتهن دون أخبار للسلطات بفقدهن أو وفاتهن من أجل عدم توقيع العقاب على الجناة من الأقارب”.

ويقول، “أصبحت كثير من جرائم القتل الموجهة للنساء ينتهي بها بالغلق اما بعدم الأخبار عنها من قبل الاهل أو بفبركة الشهادات والأقوال قضائيا مع اخفاء الأدلة أو تزييفها بغية تضليل القضاء سيما وأن الشهود الوحيدون هم الاهل أو الأقارب الذين سيتكتمون على الحقيقة كما أن الأعراف الاجتماعية تمنع من غير الأقارب الأخبار عن واقعة القتل خشية الاستهداف العشائري”.

ووفق جابر، “أن جرائم غسل الشرف في العراق تكون مؤطرة بدوافع اجتماعية مستحكمة لا تعرف منطقة جغرافية في العراق دون أن تسجل فيها تلك الحوادث شمالا أو جنوبا شرقا أو غربا وحتى النصوص القانونية التي تعطي ذلك الظرف المخفف للعقوبة خضعت في وقت إصدار التشريع إلى ذلك المنطلق الذكوري والأجتماعي المهيمن على مصدريه بل إن المشرع القانوني قد جامل العرف الاجتماعي عند إصداره”.

ويشير الخبير القانوني إلى أن “بعد صدور الدستور الجديد النافذ عام ٢٠٠٥ أصبح هذا النص كما غيره من النصوص القانونية مخالفا لمبدأ المساواة ومبدأ العدالة في الإجراءات الإدارية والقضائية الدستوريين ولابد من تعديله لكونه باطل لمخالفته لأحكام الدستور طبقا لمبدأ السمو الدستوري كما أن هذا التمييز في تلقي إجراءات التقاضي والحق في الحياة مخالف لالتزامات العراق الأممية وبالخصوص للإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام ١٩٤٨ واتفاقية سيداو ( اتفاقية مناهضة كافة أشكال التمييز الموجهة للمرأة التي أبرمتها الأمم المتحدة عام ١٩٧٩ وأصبحت سارية النفاذ عام ١٩٨١ والتي صادق عليها العراق بالقانون رقم ٦٦ لسنة ١٩٨٦ وأصبحت جزء من قانونه الوطني والتي ألزمت العراق بإنتاج سياستين تشريعية وتنفيذية للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة منها تعديل التشريعات وجعلها متوافقة مع بنود وأحكام الاتفاقية والارتقاء بالمستوى الإداري والحقوقي للمؤسسات الاتحادية”.

ويوضح جابر أن “عدم اتخاذ إجراءات حكومية وتشريعية في رفع الظلم والتمييز ضد المرأة سيؤدي بالمحلة إلى مزيد من الانتهاكات الحقوقية الموجهة للمرأة وستؤدي إلى مبدأ شرعنة افلات الجناة من العقاب سيما وأن من الأعذار القانونية المخففة التي سيستفيد منها الجناة هو حسن سيرتهم وعدم الحكم عليهم بعقوبة سابقة ستؤدي إلى إصدار أحكام موقوفة التنفيذ بحق الجناة وهذا يعني أن حتى عقوبة الثلاث سنوات الواردة في نص المادة ٤٠٩ من القانون الجنائي أنف الذكر سوف لن تطبق بحق القاتل لأنه سيستفيد من عدة أعذار قانونية والتي تشكل تمييزا جسيما بحق المرأة”.

VIAعلاء كولي