الغام السيول  القادمة من الحدود العراقية ــ الايرانية  خنادق لموت الابرياء 

اربعة وثلاثون عاماً مضت  على انتهاء الحرب العراقية الايرانية، او ما تعرف  بحرب الخليج الاولى، فمنذ اندلاعها  في ايلول من العام 1980  وحتى انتهائها  في اب عام 1988، لم تكن الحدود الفاصلة  بين الدولتين والتي غالباً ما كانت مسرحاً  للمعارك الشرسة  والهجومات بمأمن من حقول الالغام المزروعة من قبل طرفي النزاع، ولعل مدينتي مندلي وقزانيه الحدوديتين الواقعتين ضمن الرقعة الجغرافية لمحافظة ديالى  التي تبعدان بمسافة   ( 160 ) و ( 180 )  كلم عن العاصمة بغداد، كانتا  والى الان  الاكثر تضرراً مما تبقى من الغام لم تدخل في حسابات  المعنيين بالشأن الحكومي والامني لإزالتها، تجنباً للمخاطر التي لحقت المدنيين من اهالي القرى الحدودية  ورعاة الاغنام.

جغرافية مُعقدة

 اما الطبيعة الجغرافية للحدود بين الطرفين وكثرة الاودية فيها فقد كانت سبباً رئيسياً  لانجراف  المتروك منها  بفعل الفيضانات والسيول القادمة من الجانب الايراني نحو المزارع والحقول والقصبات القريبة.

 مئات الضحايا والمعاقين غالبيتهم لم يشهدوا تلك الحرب، بسبب صغر اعمارهم، الا انهم دفعوا حياتهم واطرافهم جراء انفجار وانفلاق الالغام المنجرفة هنا وهناك، ورغم اعداد الضحايا والمناشدات المستمرة لساكني هذه المناطق بضرورة نزع حقول الموت هذه وتنظيفها من اثار وبقايا الحرب المنصرمة، الا ان التعامل مع الاحداث بدا ذو حركة بطيئة من قبل المختصين، اذ لا تزال بعض المناطق عرضة للخطر مع بداية موسم الامطار الشديدة، الامر الذي ولد عاملاً نفسياً متأزماً لدى قاطنيها، فهم بين استذكار يقطر الماً على من فقدوهم بالأمس وبين المخاوف من فقدانهم للمزيد .

مدير ناحية قزانيه الحدودية مازن اكرم الخزاعي والذي يشغل في الوقت ذاته مديراً لناحية  مندلي بالوكالة تحدث قائلاً: “ان الشريط الحدودي الممتد  على الحدود العراقية الايرانية من جهة  الناحيتين، يمتد لمسافة سبعين كيلو متراً و لا تزال الغام حرب الثماني سنوات منتشرة فيه بعد ان تحولتا الى ساحة حرب ابان تلك الفترة والتي تسبب بهجرة عائلاتهما الى مناطق اكثر امنا،  ولكن  على الرغم من انتهائها منذ اكثر من ثلاثة عقود  لم يتم حسم  امر رفعها مما تشكل خطراً مميتاً، وبالأخص عند بداية موسم الامطار وكثرة السيول القادمة من الجبال المحاذية لهما”.

مضيفاً في حديث (للخط الاحمر) : “ان عدد حقول الالغام  الواقعة في الجانب العراقي  ضمن حدود ناحية قزانيه تبلغ 6 حقول وتم وضع علامات تحذيرية من قبل قوات الحدود هناك   بضرورة عدم الاقتراب منها، وخاصة بالنسبة لرعاة المواشي الذين يقصدون تلك المناطق، لوفرتها الزراعية، وتشكل مصدرا خصباً لرعي مواشيهم، ولكن ما يقلقهم  هو كمياتها  المنجرفة من السيول القادمة من الجانب الايراني، حيث لا تتوفر احصائية رسمية عن اعدادها والتي تسببت بوفيات وإصابات بالغة للعشرات من المواطنين تراوحت بين بتر للأيدي والارجل  وتشويه للوجوه، وعلى امتداد العقود الماضية ولغاية الان، وتزداد المخاوف  في كل موسم من احتمالية تعرض ابنائها  من خطر انجرافها مرة اخرى، والتي زادت عن معدلاتها المعهودة خلال موسمي عامي 2018 و2019، في حين لا يزال من المبكر  الحديث  عنها بموسم الشتاء الحالي  لقلة سقوط الامطار لغاية الان” .

وعلى الرغم من المخاطبات التي وجهت للجهات المعنية من قبل الحكومة المحلية في محافظة ديالى، الا ان الاجابات غالباً ما تأتي بعدم توفر الامكانيات اللازمة لتنظيف هذه المناطق من الالغام التي زرعت بين الطرفين، وحذر الخزاعي بمعرض حديثه ان “وجود هذه الالغام يعتبر مصدر تهديد مباشر لكل من يسكن المنطقة،  وتكون حياته على كف يديه اذا ما حاول التفكير بالاقتراب من مناطق الخطر هناك” .

ويذكر ان ناحية قزانيه الحدودية والتي تتبع قضاء بلدروز ادارياً، ويقع فيها وادي حران  والذي يمر فيه نهر ديالى ويأتي من الجبال المحاذية لإيران  من جهة الشرق والى الجنوب  من  مدينة الكوت وتقع الى الغرب من العاصمة بغداد والى  الشمال من مدينة السليمانية.

الغام السيول القادمة من  الجبال المحاذية للمدينتين تتركز بمنطقتي  (ترسخ ومعلة) وتسير باتجاه مناطق (سيد هاشم ومديثر وسمحة) مستقرةً في المنطقة الصحراوية جنوب قضاء بلدروز والفاصلة بينه وبين مدينة الكوت.

عضو مجلس محافظة ديالى السابق عامر الكيلاني اشار الى اهم اسباب عدم  الالتفات الى هذه المناطق، معللاً ذلك: “ان هذه المناطق شهدت اضطرابات امنية سابقاً،  لذلك تأخرت عمليات تطهيرها من الالغام الموجودة فيها، والتي يقدر عددها بالمئات، مما سبب خطراً  كبيراً على مواطني تلك المناطق، وليس كونهما مناطق متنازع عليها ومشمولتين  بقرارات المادة (140)بل تخضعان لسيطرة الحكومة الاتحادية بصورة كلية”.

وطالب الكيلاني في الوقت ذاته المنظمات الدولية  بأهمية العمل على تنظيفها  لتعود صالحة للزراعة ولتشكل مورد اقتصادي مهم لأبناء المحافظة وكونها غائبة في الوقت الحاضر عن مشهد  عمليات التطهير والازالة.

تشكيل لجان مشتركة بين الجانبين 

ان الالغام المنجرفة بواسطة السيول القادمة عبر الحدود، لا تزال تشكل تهديداً رئيسياً لمواطني الناحيتين، وصولاً الى المناطق الجنوبية بقضاء بدرة ضمن محافظة واسط، وهي بكميات يصعب حصرها، كونها مغمورة بفعل الاوحال الطينية ومن الصعوبة كشفها، الا بعد جفاف الاراضي  وظهور التشققات فيها اثناء فصل الصيف، وقد وصل البعض منها  الى الانهر المحاذية، وهذا ما شكل خطراً اخر على المزارعين هناك  خلال اروائهم لبساتينهم.

عضو المجلس المحلي السابق لناحية مندلي غالب طالب شاكر اوضح ان من ابرز الالغام  هو ما يطلق عليه اسم “فال ماره” وهو من النوع البلاستيكي الخفيف، الذي يتميز بصغر حجمه،  وينجرف بسهولة كبيرة، وبمجرد ملامسته يرتفع  لحوالي نصف متر ثم ينفجر، مخلفاً اصابات بليغة، واغلب اصاباته تأتي على منطقة الارجل، وبلغ عدد الاشخاص المصابين وحسب الاحصائية المتوفرة  للمجلس آنذاك بما يقارب التسعين شخصاً، مع وجود وفيات اخرى لم يتم التأكد من صحة اعدادها واغلبهم من رعاة الاغنام كونها منطقة زراعية خصبة، لكن ضحاياها الرعاة والماشية على حد سواء.

وفي حال زيادة كميات الامطار للموسم الحالي ووصول السيول الى الاراضي العراقية فأنها بالتأكيد ستجرف معها كميات، اضافة الى اجسام اخرى غريبة، وطالب شاكر تدخلاً حكومياً  للكشف عنها وانقاذ حياة الابرياء، خاصة وان الطبيعة الجغرافية للمنطقة هناك تتميز بالهضاب المتموجة وتنتهي نهاياتها باتجاه المدينة، وقال “ان الحل الوحيد يكمن  بالعمل على تشكيل لجان مشتركة، بين الجانبين للكشف عنها، وتحديد مواقعها  وعلى الرغم من العلامات التحذيرية الموضوعة من قبل الجانب العراقي، بعدم الاقتراب من مواقعها  الا انها لم تمنع الرعاة  من ذلك” .

واوضح شاكر ان  المناطق الحدودية التي تمتاز بوجود الشوارع فيها  تم تنظيفها   وخاصة الطريق المؤدي  الى منفذ مندلي ــ سومار الحدودي  في حين ظلت جوانبه متروكة وبخاصة جانبه الايسر فبمجرد النزول  منه  بضع مترات ستشكل خطراً على الحياة .

واستذكر : نتيجة لتراكم الخبرة عند البعض من الرعاة ومعرفتهم الكاملة بطبيعة الارض  التي تحتوي على الالغام تمكنوا من تفكيك العديد منها وتنظيف مناطق رعيهم وقيامهم بإخراج موادها النحاسية والحديدية وبيعها لأصحاب الخردة منوهاً الى ان “العديد من المنظمات الانسانية تبنت مساعدة ممن بترت يداه او قدماه، وتزويده بأطراف بلاستيكية  لمواجهة اعباء الحياة التي بدت جديدة عليه”.

حقول مؤمنة

مصادر امنية ومنظماتية معنية بالتعريف بمخاطر الالغام المنجرفة، اشارت الى وجود 25 حقلاً للألغام على الحدود في الجانب العراقي والممتدة من قضاء خانقين وصولاً الى مدينة بدرة جنوب محافظة واسط، وهي مؤمنة بالكامل مع وجود علامات تحذيرية بعدم الاقتراب منها  كما تقوم قوات الحدود العراقية بحراستها من خلال ابراج المراقبة المنتشرة حولها.

مدير عام دائرة شؤون الالغام بوزارة البيئة بكر صاحب، بيّن ان حجم التلوث في عموم البلاد “يبلغ  اكثر من  6,000 الاف كلم مربع  وقد تم ازالة اكثر من 55%  منها ولم يتبقى الا بحدود 2200 كلم مربع تقريباً، والعمل جار عليها بالتنسيق مع المنظمات الدولية والشركات العاملة الاخرى في هذا المجال، وقد تم احالة جزء منها الى اعمال التطهير  فيما ينتظر الجزء المتبقي  التمويل المادي سواء من المانح الاجنبي بالنسبة للمنظمات الدولية او من الحكومة العراقية” .

 وواصل حديثه مع ( الخط الاحمر )  ان الوزارة اعدت  استراتيجية  تمتد من (2022 ــ 2028)  وتعتمد على عدة محاور اساسية، منها محور التوعية والذي يختص بتوعية المواطنين  في المناطق القريبة من  حقول الالغام سواء القادمة بسبب السيول او الاخرى الموجودة على المناطق الحدودية، وبضرورة عدم الاقتراب منها، وترك  العبث بالأجسام الغريبة، ومحور  مساعدة الضحايا  والمناصرة  اضافة لمحوري الازالة والاتفاقيات الدولية، حيث انظم العراق  الى ثلاث اتفاقيات وهي “اتفاقية اوتاوا”  التي تخص الالغام المضادة للأفراد واتفاقية (CCW) وهي معنية  بمعالجة العبوات الناسفة، بالإضافة الى اتفاقية (CCM) وهي تعنى بمعالجة الذخائر العنقودية، وسنوياً يتم تزويد وحدة دعم التنفيذ في الاتفاقيات الثلاث بتقارير الشفافية  متضمنة  التقدم المحرز  على الارض فيما يتعلق بالالتزامات المترتبة على العراق تجاه هذه الاتفاقيات.

عدد ضحايا الذخائر والمواد المتفجرة  في عموم البلاد منذ عام 2003 ولغاية العام 2022  بلغ اكثر من ثلاثين الف ضحية  بين وفاة واصابة، بينما بلغ عددها في العام الفائت  155 حالة  فقط، بحسب صاحب، ملفتاً الى ان دور  دائرة شؤون الالغام هو دور اشرافي ورقابي على عمل كافة الجهات التنفيذية المنضوية تحت  مظلة برنامج ادارة شؤون الالغام الوطني في العراق،  وتعمل على اشراك موظفيها  بدورات تطويرية وورش تدريبية  مستمرة على معالجة  التخلص من الالغام وتفكيكها  بالتعاون مع  كل من مديريتي الهندسة العسكرية ومديرية مكافحة  المتفجرات .

قلة الدعم الدولي للمنظمات العاملة  

المشرف على الفرق الميدانية  في المؤسسة السويسرية لمكافحة الالغام في العراق عمر علي اكد ان “ما نسبته 10% من الالغام المزروعة في العراق تتواجد بمحافظة ديالى التي فقدت ما يقارب  سبعين مواطناً  و150 اصابة، معظمهم من رعاة الاغنام، نتيجة للعبوات التي جرفت  بسيول الامطار القوية القادمة عبر الحدود.

ونوه علي، ان ما يعيق العمل فيها  ويتسبب بتأخيره عدة اسباب “فيها  مناطق  متنازع عليها بين الحكومة الاتحادية وحكومة اقليم كوردستان، مع قلة الدعم الدولي للمنظمات العاملة بمجال مكافحة الالغام، وعدم تمكنها من توسيع عملها ليشمل كافة المحافظات حيث يتركز عمل المنظمة السويسرية فقط بمحافظة نينوى، للتخلص من اثار عبوات داعش الارهابي  والمخلفات الحربية، نتيجة لعمليات تحرير المدينة وكل ذلك متعلق بأهمية الدعم الدولي،  اذا ما ارادت المنظمة توسيع قاعدة عملها”.

وفي الاطار ذاته علق خبير المتفجرات  في المؤسسة السويسرية  المعنية بإزالة الالغام اسماعيل احمد: “ان الكثير من الالغام تنزلق مع السيول القادمة من المناطق الجبلية، مما يؤدي الى توسيع  مجال التلوث، ويتم التعامل معها  حسب نوعيتها، وألية التعامل مع  الالغام ضد الاشخاص  تختلف عن الية التعامل مع الالغام المضادة للدروع، وبهذه الحالة ستأخذ عملية التطهير وقتا اكثر”.

 وبين احمد ان المشكلة الرئيسية التي تعيق العمل هي “عدم وجود الخرائط التي تؤشر المناطق الملوثة مما يؤخر عملية التطهير، لان الاعتماد في هذه الحالة يكمن على اهالي المنطقة، في ازالتها، وتعتبر المناطق الجبلية الاكثر صعوبة بعمليات الازالة نظراً  لطبيعتها الطبوغرافية المتمثلة بالصخور وكثرة الاشجار، في حين تمثل المناطق الصحراوية او السهولية الواقعة في الوسط والجنوب سهولة تامة للفرق العاملة”.

ان عدد المنظمات العاملة في العراق من دولية ومحلية وشركات خاصة هو 25 منظمة، بحسب احمد، ويعود تاريخ بدء عمليات ازالة الالغام في العراق من خلال مسوحات التطهير والتوعية ووضع العلامات الى عام 1991م وبدأتها منظمة ميدكو الالمانية بإقليم كردستان، فيما  تمت المباشرة بمرحلة الازالة من قبل (المجموعة الاستشارية للألغام) وهي منظمة بريطانية في العام 1992 في حين شملت باقي مناطق البلاد بعد عام 2003  وتحديداً من مدينة البصرة  ومن قبل شركة ( رونكو ) ومنظمات اخرى.

الغام مغطاة بالأوحال الطينية 

الاعلامي علي عبد الستار المندولاي، قال ان الناحيتين (مندلي-قزانيه) تشهدان فيضانات شتوية متكررة  بسبب انحدار المياه من الجانب الايراني، وتمر مياهها بمناطق سبق وان كانت ساحة للمعارك، ولم يتم تطهيرها بعد انتهاء القتال  وخاصة فيما يتعلق الامر  بالجانب العراقي في حين قامت السلطات الايرانية بتطهيرها وغالبا ما تكون هذه الالغام “مغطاة بالأوحال الطينية  او تحت  الادغال مسببة اصابات بالغة تصل الى حد الوفاة  حال انفجارها”، مؤكداً ان “وضع  الكثير من هذه المناطق غير مطمئن” .

وتؤكد بعض المصادر الى ان اغلب انواع  الالغام المنجرفة هي من النوع البتار والمسمى (VS50)  والمضادة للدروع (VS) التي تتميز بخفتها وسهولة انجرافها .

وتبقى قضية ازالتها من مناطق شرق ديالى على درجة بالغة من الاهمية، اذا انها كانت وما تزال حائلاً امام الكثيرين  ممن يعتمدون على مهنتي الزراعة والرعي الامر الذي يتطلب تحركاً حكومياً عاجلاً، والعمل على نزعها وتوفير مساحات امنة  لحدود الناحيتين، لإيقاف مسلسل  الوفيات والاصابات الناجمة بفعل انفجارها والتي لم يبصر قرار تفكيكها النور حتى اللحظة، وعلى المنظمات الانسانية والدولية  القيام  بدور اكبر ومساعدة الحكومة العراقية  على تجاوز هذا الكابوس الذي بات يؤرق اعداد كبيرة من المواطنين مع اهمية التعريف  بمخاطرها وتراكماتها المستقبلية  من خلال دورات توعوية تقوم بها فرق ميدانية للمناطق المحاذية لها تجنبا لإراقة مزيد من الدماء.

VIAرعد شريف