محمد عبد الرضا – باحث من العراق

أخبار العنف في العراق أصبحت أمراً معتاداً، يندر أن يمر يوم من دون أن يشهد العراقيون حالة منه. العنف السياسي أكثر ما يلفت الانتباه، ليس لندرته بل لعوامل أخرى تتعلق بتركيبة المجتمع العراقي. أما العنف العشائري فله حظ وافر من إجمالي أعمال العنف في العراق، ففيه تستخدم أسلحة تتراوح بين متوسطة وثقيلة، من دون تدخل يذكر من طرف الدولة. وعادة ما يكون سببه أعمال ثأر متسلسلة، تبدأ بسبب مشكلة بسيطة كاختلاف حول توزيع الموارد الاقتصادية أو على مساحة أرض، أو حتى بسبب مزحة بين شخصين. 

ضحايا منسيون

ضحايا العنف العشائري ليسوا المقتولين فقط، بل من حولهم كذلك. يصعب التواصل مع الضحايا من النوع الثاني فهم مغيبون قسراً، لا يسمع شكواهم أحد، والنساء يمثلن الغالبية بينهم. بصعوبة بالغة تمكّنا من الحديث مع إحداهن. تقول، وهي التي لم تبلغ من العمر سوى 16 عاماً، أنها تم تزويجها قسراً من ابن عمها وهي لا تزال قاصر، ولم يكن لها أن تبدي رأياً في المسألة، فهكذا تقتضي الأعراف في عشيرتها. تركَت مدرستها وسافرت مع زوجها من مدينة البصرة إلى مدينة ميسان، التي تبعد 200 كم عن أمها، التي فقدت الاتصال بابنتها نهائياً.

تقول هذه الفتاة أنها تتعرض للاغتصاب الزوجي بصورة متكررة، فالأعراف العشائرية تمنح الزوج الحق في ذلك، كما تتعرض للعنف الجسدي حتى للأسباب الخارجة عن سيطرتها. “أتعرض للضرب من زوجي عندما تنزل الدورة الشهرية”. عندما اشتكت لأمها من سوء المعاملة، اتهمها زوجها بالخيانة ومنعها من استعمال الهاتف، فانقطعت أخبارها تماماً. تكملُ باكيةً وكأنها منقطعة الأمل، “أخطط للهرب، لولا أنني أخاف من الاستغلال والابتزاز”.

سياق تاريخي 

استثمرت الأنظمة السياسية التي تعاقبت على العراق في السلطة العشائرية ومكّنتها، بدلاً من أن تفككها. يقول الباحث الأمني حسيني الأطرقجي، “ترجع عوامل هيمنة العشائر الى حقبة الاحتلال العثماني للعراق، إذ عمل العثمانيون على تمكين زعماء العشائر، من خلال دعمهم بالأراضي والأموال العائدة من الولايات العراقية. والأهم من ذلك، جعلتهم يحكمون بدستور خاص يدعى الأعراف العشائرية”.

ويكمل الأطرقجي، “ما زاد من قوة العشائر هو الصراع العثماني-الصفوي الذي امتد لفترة طويلة. حيث استغل كلا الاحتلالين العشائر الموالية من سنة وشيعة، وباتت هذه العشائر أدوات يستفيدون منها”.

“حاولت السلطات لاحقاً، بعد نشوء الدولة العراقية في الخمسينات، توطين العشائر في بغداد على اختلاف مذاهبهم الدينية”، يقول الأطرقجي الذي يعمل نائب رئيس في مركز وطن الفراتين للدراسات الاستراتيجية. “أما دولة البعث التي انحلّت في عقد التسعينات، فسعت إلى تمكين العشائر، من خلال السماح للأعراف العشائرية أن تأخذ مساراً موازياً لقوانين الدولة. كما نجحت في اختراق القبائل العربية، ووضعَت زعماء عشائر موالين لها بهدف احتواء سخطها بعد الهزيمة في حرب الخليج الثانية، والحصار الأممي الذي فرض على العراق بعده.” 

أما بعد 2003، فيقول الأطرقجي، “وجدت الطبقة السياسية امتداداً وقوة لها في العشائر، لذا قسمتها على أساس طائفي، وصار للعشائر السنية والشيعية مواقعها الجغرافية المحددة. أنتجت سياسة الدعم والتقسيم هذه صراعات بين العشائر المختلفة، أو داخل العشيرة نفسها، على الموارد ومناطق النفوذ.” 

دور الدولة

يظل سؤال حضور الدولة في أزمات العراق طاغياً على جميع الأسئلة، إذ تكاد أن تكون سلطة الدولة منعدمة في الكثير من القضايا. يعزو الباحث ساطع عمار ذلك إلى كونه “مرتبط بتاريخ العراق منذ وضع هياكل الدولة الحديثة عام ١٩٢١. فالدولة الحديثة تعتمد على جهاز الإيديولوجيا، وهي المنتِج الثقافي لسياساتها، ومهمته دمج الفئات الاجتماعية والثقافية، على اختلافها، داخل فضاء الدولة، وتشكيل مجتمع يسوده القانون والقيم الثقافية الحديثة. أما العراق فلم يستطع على مدى مئة عام أن يصنع هوية إدماجية لمجتمعه. ولذلك تطغى الهوية العشائرية بقيمها وسلوكياتها على فضائه العام.” 

كما يرى عمار أن للأمر علاقة بالجغرافية الثقافية، “فالعراق تاريخياً منطقة جاذبة لهذه التجمعات العشائرية، بما يحتويه من ريع مائي وأرض منبسطة. رافق هذه المتغيرات عدم وجود حكم مركزي في العراق لفترة طويلة، منذ القرن السادس الهجري تقريباً. كل ذلك عزز ازدهار العشائر. ربما شهدنا في أزمان معينة ضعف أو حتى أفول هذه العشائر، لكنها سرعان ما تعود نشطة بفعل سياسات الدولة نفسها.”

أما عن تمييز العنف العشائري عن سياق العنف المهيمن في العراق، فيقول عمار، “إن عنف الجماعات في العراق سواء كان عشائريا أو دينياً مرتبط بهشاشة هوية الدولة. لكن ما يميز العنف الديني عن العنف العشائري هو أن الأول أكثر تنظيماً وارتباطاً بالمصالح المادية والطائفية، أما الثاني فمحكوم بقيم متبدلة، ولذلك لا يخضع إلى دوافع ثابتة. العنف القبلي، إذن، يناقض القانون والقيم المدنية بطبيعته. أما العنف الديني فله مشروعية فوق القانون.” 

قيم ذكورية

تترسخ في المجتمعات ذات الطابع العشائري قيم ذكورية مثل الثأر والاحتكام إلى السلاح والنزوع إلى القتل. وليس من النادر أن يولد طفل وفي عنقه ثأر أبيه، فيجب عندما يكبر أن يلاحق قاتل أبيه حتى يقتله، وإلا لحق به العار مدى الحياة. 

يقول طبيب يعمل في دائرة صحة ميسان، “يعطي الضحايا الذين لم تنجح عملية اغتيالهم إفادات مزيفة عن الحادث لكي يضلّلوا أجهزة الأمن، رغم تدخل الشرطة فور وصول الحالة إلى المستشفى”. ويكمل الطبيب الذي رفض الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، “إننا نحتاج إلى معرفة كيفية وقوع الحادث لتقييم الإصابة وتحديد نوعية التدخل الطبي أو الجراحي، لكننا نواجه صعوبة في الحصول على معلومات صحيحة من الضحايا أو ذويهم”.

وبحسب مطلعين، فإن سبب تكتم الضحايا أو ذويهم قد يعود إلى رغبة الواحد منهم بأن يأخذ ثأره بنفسه، من دون تدخل الدولة. كذلك تمنع بعض البروتوكولات العشائرية الضحايا من حق المطالبة بتعويض عن الإصابة التي تعرضوا لها في حالة تقديم الشكوى إلى أجهزة الأمن. 

ماذا يقول علم النفس؟

“تنتج بنية اجتماعية عنيفة كهذه أفراداً عنيفين بالضرورة، فيعيد العنف إنتاج نفسه بصورة مستمرة”، يقول الباحث النفسي محمد العمراني، “إن فهم العنف ومخاطره وتبعاته يجب أن يأخذ بنظر الاعتبار ثلاث أركان رئيسية، هي البنية المنتجة للعنف، والشخص العنيف، وضحية العنف. فالبنية المنتجة للعنف تزودنا بالأسباب والسياقات والإمكانات الداعمة.” ويرى العمراني “أنه عندما تعجز أجهزة الدولة عن القيام بدورها في الفصل بين المتنازعين، أفراداً وجماعات، تنوب عنها البنية الاجتماعية، فتفرض قيمها ومعاييرها المتجذرة ثقافياً وتاريخياً. ونتيجة للصراعات والحروب التي مرّ بها العراق، فضلاً عن الهجرات البدوية الكبيرة من الصحراء، أصبحت القوة والعنف والقسوة والثأر تمثّل قيماً ذكورية متجذّرة في ثقافة هذه العشائر العراقية، ومن هنا بدأت حلقة إنتاج العنف.”

أما عن الإنسان العنيف فيرى العمراني “أنه لا يولد الإنسان عنيفاً، إذ لا وجود لغريزة العدوانية. ولكن ثمة شروط موضوعية تحدد الطريقة التي يمارس بها الإنسان العنيف سلوكه. وإذا كان محيطه يشجع العنف ويكافئ الإنسان العنيف، يصبح العنف خياراً مقبولاً لديه.”

الأمر مختلف بالنسبة إلى ضحايا العنف. فرغم أن الكثير من ضحايا العنف العشائري يُقتلون أثناء النزاعات العشائرية أو بالاغتيال، إلا أنه بعضهم يتعرضون للموت نفسياً. يقول محمد العمراني، “هناك عنف رمزي تمارسه الهيمنة الذكورية على الرجال والنساء معاً، يتمثّل بالقيم والمعايير المفروضة على كلا الجنسين. هناك أيضاً عنف يمارسه الرجال على النساء، يتمثل بالإيذاء الجسدي واللفظي، فضلاً عن الحرمان من التعليم والعمل والخروج خارج المنزل. وكل ذلك يتم ضمن ما يدعى الأعراف العشائرية. يعاني ضحايا العنف من أزمات نفسية حادة، ومن الإحباط والاكتئاب، وينخرط بعضهم في مناخ العنف هذا، فيتحولون إلى أشخاص عنيفين أو مشجعين على العنف، وبذلك تكتمل دورة إعادة إنتاج العنف”.