العشوائيات في العراق .. طموحات شعبية وارق حكومي !

’’بعد العام الفين وثلاثة وغياب القانون، انتشرت العشوائيات بشكل كبير مع ما تتسبب فيه من مشكلات أمنية وخدمية واجتماعية عديدة، وذلك في ظل استمرار عجز الحكومات المتعاقبة عن معالجة هذه الظاهرة التي تغزو مدن العراق، ومعظم هذه الاماكن هي ممتلكات عامة للدولة تم الاستيلاء عليها بطريقة غير قانونية، وكان من المفترض أن تشيّد عليها مشاريع استراتيجية’’

ظهرت آفة جديدة بدأت بنخر البنى التحتية العراقية المنهكة جراء ثلاثة حروب طاحنة عرفت باسم التجاوز، حيث بدأت أعداد كبيرة من الناس بالاستيلاء على المباني العامة لغرض تحويلها الى وحدات سكنية

تخلو العشوائيات من أية خدمات فضلاً عن التغطية الأمنية مما ينتج عنه العديد من المشكلات من أبرزها العنف وانتشار الجريمة المنظمة اضافة الى انتشار الامراض بسبب قلة الخدمات الصحية.

في ابريل عام 2003، كانت أعمدة الدخان لا تزال تتصاعد من بعض المباني الحكومية في بغداد، ومع ذلك حلت سلطة الاحتلال المدنية كافة القوات الأمنية العراقية. حيث تركت القوات الامريكية الممتلكات العراقية العامة لقمة سهلة لعمليات النهب والحرق من قبل المعارضين الغاضبين.  عمليات الحرق والنهب كانت الطريقة الوحيدة للتعبير عن رفض نظام صدام حسين آنذاك. في ذلك الوقت، انتشرت ظاهرة جديدة بدأت بنخر البنى التحتية العراقية المنهكة جراء ثلاثة حروب طاحنة عرفت باسم التجاوز للتعبير عن المعاناة حيث بدأت أعداد كبيرة من الناس بالاستيلاء على المباني العامة لغرض تحويلها الى وحدات سكنية. هادي دخيل، اب لأربعة اطفال يبلغ من العمر 59 عاماً، كان من أوائل الذين توجهوا الى هذه المباني لسد حاجته في السكن. منتصف شهر ابريل، كان هادي منشغلاً في لملمة أغراضه المتواضعة من الغرفة الصغيرة لا تتجاوز مساحتها 25 متر مربع  التي يسكنها هو وزوجته وأطفاله في منزل عائلته بمنطقة حي أور شرقي بغداد. متقاسماً المنزل مع والدته وإخوته الثلاثة  وشقيقتين اثنتين. اتجه هادي نحو مبنى حكومي غير مكتمل في حي البنوك المجاور ليستقر في إحدى شققه كسكن دائم له، حيث يقول: “حصلت على هذا السكن وتخلصت من مشكلة السكن، وأصبحنا نشعر بالسعادة بعد أن أمضيت سنوات طويلة في زحمة بيت عائلتي المكتظ”.

ويدافع دخيل عن احتلاله هذا المكان بوصفه حق للعيش الكريم ” لقد سلب صدام حريتي ومعيشتي ل 35 عاماً وبات من حقي الحصول على سكن كأبسط حقوقي في بلدي”. وجادل دخيل عدم قانونية هذه الوحدات السكنية” أنا لست الشخص الوحيد الذي يدخل ذلك المبنى بل الكثير من العائلات التي تعيش الآن في هذه الشقق.” هذه الشقق كانت مخصصة لأساتذة الجامعات ولكن تحولها الى منطقة عشوائية اجل تسليمها الى مستحقيها لمدة عشرون عاما.

دخيل، يستذكر تلك الأيام بنبرة حزن مصاحبة لدخان السجائر الذي ينفثه من أنفه ويقول” توقعت حينها أن مكوثي في هذا المكان لن يطول كثيرا مع ما يقال آنذاك سيتم بناء عراق جديد يضمن حقوق مواطنيه في السكن والعيش الحر الكريم  لكنني اليوم ما زلت أسكن في نفس المكان ومعي أطفالي الأربعة الذين أصبح أصغرهم بعمر المراهقة” . 

دور سكنية على أطلال أراض زراعية

أما محسن الشمري، صاحب مكتب لتجارة العقارات في مدينة الصدر، المنطقة الأكثر ازدحاماً  بالسكان في بغداد، أشار إلى أن السكن العشوائي في العراق يتخذ أشكالاً عدة “الأراضي الزراعية المملوكة لمواطنين قاموا بتقسيمها إلى قطع صغيرة وبيعها للمواطنين ليشيدوا عليها دوراً سكنية في مناطق خارج التصميم الأساسي للمدن” .

الشمري وهو رجل خمسيني يرتدي الزى العربي المكون من الدشداشة وعقال الرأس اصطحبنا إلى إحدى هذه المناطق، ظناً منه إنا زبائن ننوي شراء عقار سكني – زراعي  ومن مقر مكتبه  وسط مدينة الصدر اتجه بنا شرقاً بسيارته الهونداي مجتازاً شوارع مكتظة بالناس وتبدو على بيوتها علامات الدخل المحدود لساكنيها باستثناء المباني التجارية، وبعد رحلة غير قصيرة وسط ذلك الزحام وصلنا إلى منطقة –السدة- والتي كانت تمثل قبل عام 2003 خط النهاية لمدينة الصدر، لكنها تحولت اليوم أحياء سكنية شيدت على أراض زراعية بعضها تابع للدولة والبعض الأخر كانت ملكاً لأشخاص.

 صاحب مكتب العقار أخبرنا عند وصولنا عن أسعار قطع الأراضي السكنية في المنطقة التي نقف بالقرب منها ويطلق عليها – الدسيم – “إن قطعة الأرض التي بمساحة 100 متر تتراوح أسعارها حالياً ما بين 15 – 20 آلاف دولار أميركي وبحسب الموقع، ناهيك عن أجور السمسرة”. 

لافتاً إلى أنها ارتفعت بشكل كبير مؤخراً “متأثرة بقرار حكومة محمد شياع السوداني بتمليك العشوائيات لشاغليها “

’’ (التجاوز) وهو المصطلح الذي يطلق على مثل هذه المناطق أو مباني المؤسسات الحكومية السابقة، بما فيها بعض مقرات حزب البعث، التي تسكنها العائلات منذ سقوط نظام صدام ولغاية الآن’’

معسكرات الجيش السابق عشوائيات سكنية 

ليس ببعيد عن مدينة الصدر وعلى بعد بضع كيلومترات شمالاً وصلنا إلى منطقة سكنية غير معبدة الشوارع محاذية لطريق قناة الجيش، أحد أبرز شارعين للمرور السريع في جانب الرصافة ببغداد. 

المحامي أحمد القره غولي رافقنا في هذه الرحلة وبين لنا أن هذه المنطقة كانت عبارة عن معسكر كبير للجيش العراقي السابق، لكن المعسكر تعرض للنهب والتخريب حتى أمسى أرضا قاحلة سرعان ما استولت عليها جهات متنفذة لم يسمها، وراحت تقسمها وتبيعها للمواطنين موضحاً ان “غياب القانون فسح المجال امام المليشيات المسلحة للسيطرة على العديد من المساحات الشاسعة التي كانت معسكرات للجيش لتحولها الى عشوائيات سكنية”. 

انعكاسات نفسية واجتماعية 

تخلو العشوائيات من أية خدمات فضلا عن التغطية الأمنية “مما ينتج عنه العديد من المشكلات من أبرزها العنف” بحسب الأكاديمي والخبير في العلوم النفسية، كريم الواسطي.

’’أن تكدس الأفراد في مباني غير صالحة للسكن كونها كانت معدة سلفاً لتكون دوائر حكومية يخلق العديد من الاحتكاكات ويجعل من خصوصية العائلة أمراً مستحيلاً’’

الواسطي أكد  تسجيل انتهاكات جنسية وحالات اغتصاب داخل تلك التجمعات السكنية “نعم شهدت العشوائيات السكنية مشكلات اجتماعية واعتداءات جنسية كانت غالباً ما يتم حلها عائلياً  بعيدا عن القانون لدواع اجتماعية كالخوف من الفضيحة على نطاق واسع” .

وفي دراسة أكاديمية أعدتها جامعة القادسية حول التداعيات الصحية داخل الأحياء العشوائية في مدينة الديوانية (180 كم جنوبي بغداد) أظهرت تعرض سكان تلك المناطق إلى بعض الأمراض بنسبة أكبر من غيرهم، وشكل مرض الديدان المعوية النسبة الأكبر بالنسبة للأمراض المنتشرة ضمن تلك التجمعات يليه مرض الجدري المائي. 

عشوائيات العاصمة 

’’بصيص امل لدى ساكني المناطق العشوائية مع قرار تمليكهم الاراضي الذي اصدره السوداني، لكن سكانها يأملون في الحصول على الخدمات التعليمية والصحية’’

وبمرور الوقت اتسعت رقعة المناطق العشوائية واختلفت أنواعها. حتى أصبحت تقارب آل 4000 عشوائية في عموم البلاد وفي العاصمة وحدها توجد 1022 منطقة عشوائية بحسب المتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي “نعم انتشرت العشوائيات في العاصمة على نطاق كبير وبشكل متسارع خاصة في السنوات الأخيرة بسبب أزمة السكن التي تمر بها البلاد “

 أن جميع هذه المناطق غير داخلة في التصميم الأساسي للمدينة وتخلو من معظم الخدمات الأساسية بحسب الهنداوي. كما ان هذه العشوائيات التي انشأ معظمها على أراضي زراعية مملوكة للدولة، تغيب عنها الخدمات والبنى التحتية بما في ذلك قطاعي الصحة والتعليم رغم أنها تحتضن مئات الآلاف من العائلات. 

الهنداوي لفت الى حاجة البلاد إلى ملايين الوحدات السكنية لمواجهة أزمة السكن وأكد ان العراق بحاجة إلى أربعة ملايين وحدة سكنية ستزداد مع مرور الوقت إذا ما نفذت الخطط التي وضعت لحل الأزمة.

وشهدت معظم المحافظات العراقية شيوع ظاهرة تواجد العشوائيات السكنية بعد عام الفين وثلاثة نتيجة أزمة السكن التي تعاني منها البلاد منذ عقود عدة.

 في جنوبي العاصمة بغداد وفي قضاء العزيزية تحديداً انتشرت العشوائيات أيضاً ووصل عدد الوحدات السكنية المنشئة على الأراضي الزراعية (العشوائيات) بين 8000 – 8500 وحدة سكنية تتخللها قطع سكنية أنشأت ما قبل العام 2003 بحسب قائمقام القضاء محمد رضا  “لدينا عشوائيات سكنية في محيط القضاء تضاعفت بشكل كبير بعد التغيير دون أن تكون هناك ضابطة من قبل الدولة وأجهزتها الخدمية” .

وأعرب رضا عن أسفه لغياب القانون وتقسيم هذه الأراضي بطريقة غير حضارية “للأسف قسمت الأراضي حسب رغبة أصحاب الأراضي التي أما أن تكون مملوكة للدولة وفيها حق تصرف أو تكون عقود زراعية آو بساتين”.

رضا اقر بوجود صعوبات في تقديم الخدمات الأساسية في المناطق وقال “نحن نجد صعوبة في تقديم الخدمات البلدية لها بسبب عدم بنائها حسب تصاميم قطاعية نظامية”. 

قرار حكومي بتمليك العشوائيات 

’’بصيص امل لدى ساكني المناطق العشوائية مع قرار تمليكهم الاراضي الذي اصدره السوداني، لكن سكانها يأملون في الحصول على الخدمات التعليمية والصحية’’

في نهاية نوفمبر الماضي وفي سادس جلسة للحكومة العراقية الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني أصدر مجلس الوزراء قراراً بـ “تمليك الأراضي التي تم تغيير استعمالها لأغراض السكن، وتحويل جنس الأراضي الزراعية إلى سكنية بصورة أكثر تنظيماً، وتكون خاضعة لضوابط ومحددات قانونية معينة”. 

ورغم مرور عدة أسابيع على هذا القرار إلا أن بنوده غير واضحة المعالم وتشوبها الكثير من علامات الاستفهام. فبينما ينص القرار على شمول الأراضي المملوكة للدولة المقامة عليها دور سكنية بالمشيدات الثابتة بحسب الخبير القانوني ظافر البصام “أي أرض تابعة للدولة  وتجاوز عليها المواطن فلن يتم تحوليها باسمه”. 

وتساءل البصام عن الأراضي التي سيتم تحويلها “عدم وضوح في اتخاذ هذه القرارات وهي بحاجة إلى مزيد من التفصيلات لمعرف العشوائيات التي يتم تمليكها “

وبالعودة إلى قائمقام قضاء العزيزية محمد رضا فانه يشير إلى بدء العمل بإجراءات تمليك العشوائيات بعد صدور قرار مجلس الوزراء 320 لسنة 2023 الخاص بتمليك الوحدات السكنية (العشوائية) لشاغليها “باشرنا بجرد الوحدات السكنية ووضعنا آلية لتسهيل وتبسيط الإجراءات على المواطن من خلال تشكيل لجنة خاصة بكل منطقة محددة”.

ولفت رضا إلى وجود ا خطط مستقبلية من ضمن موازنة 2023 لإكمال كافة الخدمات لهذه المناطق وبمراحل متعددة “سيتم شمول هذه المناطق بالخدمات الأساسية لكن الأمر مازال مرهوناً بإقرار موازنة العام الحالي”

بصيص أمل ومخاوف من البيروقراطية

’’الحصول على التعليم والخدمات الصحية من أبسط الحقوق التي يجب توفيرها لجميع المواطنين بدون استثناء’’

القرار الحكومي الخاص بتنظيم السكن العشوائي أوجد بصيص أمل لدى ساكني هذه المناطق الذين يأملون في أن يكون هذا القرار بداية النهاية لمعاناتهم مع غياب الخدمات والبنى التحتية عن مناطقهم. 

سعاد الطائي (ربة منزل) تسكن منطقة عشوائية في محافظة واسط تتحدث عن معاناتها المستمرة منذ سنوات عدة بعد أن دفعها ضنك العيش وقسوة الحياة إلى بناء منزلها في إحدى العشوائيات “لا وجود لمدارس قريبة وأبنائي مجبرين على المشي لمسافات طويلة وسط شوارع تتحول إلى برك من الوحل مع إي تساقط للمطر”.

وأعربت الطائي عن أملها في الحصول على الخدمات البلدية في ظل قرار الحكومة بالتمليك “نامل ان يساعد قرار تنظيم السكن العشوائي في دخول الخدمات البلدية إلى مناطقنا التي لا تقل زخماً عن الأحياء السكنية الرسمية”.

فيما يخشى آخرون ومنهم جواد هامل (متقاعد) من أن تتسبب البيروقراطية الإدارية في تأخير تطبيق القرار بصورة فعلية وإرهاق كاهله مادياً وجسدياً “أنا أمر بظروف معيشية صعبة ودخلي لا يكفي لعائلتي المكونة من تسعة أشخاص واجد صعوبة بمراجعة الدوائر الرسمية دون أن احصل على نتيجة ايجابية بالتمليك وهو الحلم الذي طال انتظاره وأتمنى تحقيقه قبل أن اتوفى”

هذا وبين هذا وذاك يبقى امل المواطن معلقا بقدرة القائمين على إدارة البلاد في وضع حد لمعاناته بمختلف مجالات الحياة بحسب قول العديد من المراقبين الذين يخشون من أن تتحول العشوائيات إلى لعبة انتخابية تتصدر المشهد كل أربع سنوات …

VIAحسين الشمري