التنوع الإثني في كربلاء: اقوام عديدة استوطنت و اضطرت لتخفي اصولها

قد يبدو للوهلة الاولى ان خوض غمار الكتابة عن التنوع العرقي والاثني في كربلاء غريباً نوعاً ما، وقد يتهم البعض كاتب السطور بغريب الاطوار، او لديه شطحاً من الجنون (خوفاً من الملاحقة القانونية والعشائرية)، لكن ما حفزني للبحث والتقصي عن المسكوت عنه في هذه المدينة الواقعة في منطقة الفرات الاوسط 100 كم جنوب بغداد والمتاخمة لصحراء الانبار، هو بعدها التاريخي وبما تشكل من رمزية دينية للطائفة الشيعية في العراق والعالم.

كربلاء، يزورها سنوياً ما بين 15-20 مليون سائح من خارج البلاد وداخله، ويحجون الى مرقد الحسين بن على بن ابي طالب وهو حفيد اخر أنبياء الديانات الكتابية للمسلمين الشيعة حول العالم، لإحياء المراسيم الدينية عند مرقده وسط مدينة كربلاء، المدينة التي احتضنت عبر عصور خلت العديد من القوميات، توحدهم الطائفة، مرة بحثاً عن عمل ومرة للاستيطان فيها، ليكونوا قرب الاضرحة الدينية. 

هنا لابد ان نتوقف قليلاً… كربلاء الحاضنة لمراقد البعض من أئمة الشيعة، لم تكن حصراً على المسلمين الشيعة العرب، بل كانت على الدوام جاذبة للأقوام من اعراق مختلفة ومن بلدان كثيرة، ما يجمعهم تحت سقف هذه المدينة الصغيرة هو “الطائفة”.

اصول سكان كربلاء

عندما تجالس كبار السن وتستمع لاحاديثهم تجد عشرات القصص لأناس من بلدان مختلفة سكنوا كربلاء واصبحوا وذريتهم بعد توطينهم لعشرات السنين اهم بيوتاتها، لا مجال لذكر أمثلة عن هذه البيوتات في التقرير لمحاذير اجدها منطقية في عصرنا هذا كون الجميع يرفض الاعتراف بعرقيته، بل يقدم ادلة على عروبته المزيفة، ذاب تماماً مع الاغلبية من المجتمع العربي واسس له مكانة مرموقة بين اوساطها.

في احاديث الشيوخ والشباب والنساء في كربلاء على حد سواء وعندما يكون احدهم منزعج الى حد ما من تصرف احد الماسكين على مقدرات المدينة هو واقاربه، تبدأ الاحاديث الجانبية وبصوت منخفض خوفاً من تبعات ما بوح به ان سمعه احد ما، عن اصوله، فيشير احدهم الى اصوله العرقية المنحدر منها كأن تكون ربما، (الهندية، الباكستانية، الكشميرية، الايرانية، التركية، الافغانية، الشيشانية وصولاً الى البلوشستانية، وغيرها)، وهذا مما يكشف بشكل جلي عن مدى التنوع العرقي للمدينة.

وهذ الرأي يشاطره الكثير من اهالي كربلاء لكن المحاذير تمنعهم من الحديث بشكل صريح عن الموضوع الذي يعتبر شائك نوعاً ما.

ويفصح عبد لله كاظم (اسم مستعار) في حديث للخط الاحمر، عن اصوله العرقية المختلطة بقوله: “ابي من اصول تركية اما امي منحدرة من ايران”. وزاد بقوله: ان “ابيه وامه لغاية موتهما لم يتقنا العربية بشكل جيد”، مستدركا، “لكنهما من مواليد كربلاء”.

غياب الهوية

ورغم انهم توطنوا في كربلاء من عقود الا انهم لم يتحصلوا الجنسية العراقية الا بوقت قريب، يؤكد كاظم، إنه خوفا من النظام السابق من قيامه بتهجيرهم (في سبعينات القرن الماضي) تم تسجيل عائلته واعمامه مع احد العشائر العربية مركزها في اطراف كربلاء، حيث كان النظام السابق (حزب البعث) في اواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي، اصدر قراراً بترحيل آلاف المواطنين العراقيين بحجة انهم من “التبعية الإيرانية”.

وكان النظام العراقي السابق اصدر قراره المرقم (666) لسنة 1980 بالاستناد إلى أحكام الفقرة (أ) من المادة الثانية والأربعين من الدستور المؤقت لسنة 1970 في قرار لمجلس قيادة الثورة المنحل بجلسته المنعقدة في أوائل أيار-مايو 1980 أن يتم “تسقيط الجنسية العراقية عن كل عراقي من أصل أجنبي إذا تبين عدم ولائه للوطن والشعب والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة”.

وحتى ما بعد سقوط النظام سنة 2003 وزوال الخطر لا يجرؤ الكثير من المنحدرين من أصول اسيوية واوربية وغيرها على الحديث عن اصوله، خوفاً من عائلته التي ترفض بتاتاً الخوض في هذا الحديث كونهم اسسوا لهم مكانة واصبحت لهم جذور في كربلاء، لكنه والحديث لكاظم: انهم لم يقطعوا الود اذ ما زالوا متواصلين مع اقربائهم في بلدانهم الاصلية. 

الغالب والاعم من بيوتات كربلاء تحمل القابا مناطقية او اسم مهنة خلافاً لمواطني كربلاء من أصول عربية الذين يحملون القاباً لقبائلهم. 

عيد نوروز ثالث اكبر الاعياد في كربلاء

هنالك دلائل عدة قد تكون غير محسوسة لدى الكثير من المتابعين للشأن الكربلائي الا وهو الاحتفال بعيد نوروز اي كما يسميه العراقيون بعيد “الدخول” ويأتي إيذاناً ببدء فصل الربيع، والذي يعد  ثالث اكبر الاعياد في كربلاء من بعد عيد الفطر والاضحى، اذ يحتفل الكربلائيون على وجه الخصوص بهذا العيد عبر اشعال الشموع وتوزيع الحلويات والخروج للنزهة.

 وكما معروف لدى عامة الناس هو عيد يحتفل به الايرانيون والأتراك والقومية الكردية شمال العراق، وكما يعتبر عطلة رسمية في إيران وأذربيجان، والعراق وقرغيزستان.

وحسب الابحاث، أن النيروز أو النوروز (بالفارسية: نوروز) (بالكردية: نەورۆز)‏ هو عيد رأس السنة الفارسية والسنة الكردية، ويوافق يوم الاعتدال الربيعي، أي الحادي والعشرين من مارس-اذار في التقويم الميلادي.

ويرجع أصل عيد نوروز إلى التقاليد ديانة الزرادشتية في ايران، ويعتبر العيد أكبر الأعياد عند القومية الفارسية ويحتفل به في إيران وأفغانستان وتركيا واكراد العراق. 

يولى عيد نوروز اهتماماً خاصاً عبر التهيئة له مبكرا، وتلبية حاجيات العيد التي اعتادوا على عملها في كل عام، كما يقول علي هاشم (اسم مستعار): نشتري الملابس ونقوم بتهيئة صينية نضع فيها ما يعرف “بسبع سينات”، حسب قوله، ومن ثم الخروج الى الحدائق والمتنزهات وتبادل التهاني.

وصينية “السبع سينات” هي عبارة عن صينية كبيرة تجمع فيها سبع اشياء تبدأ بحرف السين او تحتوي على هذا الحرف واولها سمكة صغيرة نوع (حرش) او ما يسمى عند الجنوب (الزوري او ابو خريزة) وهذه السمكة في صبيحة يوم “عيد الدخول” أي نوروز تعلق في باب البيت الى العام القادم لطرد العين وجلب الرزق، كما توزع بعض المأكولات تطبخ خصيصاً لهذا اليوم مثل “الزردة والبحت”.

اما باقي مكونات “الصينية” فهي على الغالب اعواد من نبات الياس، الملبس (وهي حلوى كروية)، وسكر، وسمسم، وسلق، وخس وغيرها وتوقد فيها الشموع في ليلة عيد الدخول الى ان تنطفئ لوحدها، يوضح هاشم في حديث للخط الاحمر: اعتقاداً ان هذه الصينية تبعد الارواح الشريرة عن ابناء البيت.

دلالات ومعاني 

في محلة باب النجف بكربلاء هناك زقاقاً يتفرع منها ما يعرف بـ (عكد البلوش) نسبة إلى الجالية “البلوشستانية” التي سكنت بعض دور هذا الزقاق عند قدومها إلى العراق من إيران بقصد زيارة المراقد الدينية، اتخذ بعضهم من كربلاء ومن هذا الزقاق بالذات مستقراً لهم فعرف الزقاق باسمهم كما عرفت الساحة التي يطل عليها هذا الزقاق والذي يُطلق عليها (ساحة البلوش).

والبلوش هم اسرة علمية استوطنت كربلاء على عهد السلطان العثماني نادر شاه وتم تسمية احد الازقة باسمهم عگد البلوش.

وفي منطقة العباسية احد اقدم مناطق كربلاء القديمة وأكثرها شهرة، يوجد جامع الترك وسبب تسميته جاءت نسبة إلى وجود الأتراك فيه أما الظاهرة الأخرى فهو وجود المستوصف الباكستاني في سوق النجارين والذي كان يوزع الادوية مجاناً على المواطنين.

ومن أهم الشواهد والظواهر والمعالم المهمة هو وجود المدرسة الإيرانية للبنات بالإضافة إلى القنصلية الإيرانية والحسينية الأصفهانية التي أسسها الأصفهانيون في القرن الماضي والتي ذهبت كلها مع حملة النظام السابق في التهجير وبدء الحرب العراقية الايرانية 1980- 1988.

https://karbala.gov.iq/news/news/966
https://www.kitabat.info/print.php?id=104232

مراحل التحول العرقي

المدن التي تحتوي على مزارات دينية تكون جاذبة لمختلف القوميات والأديان، كما يؤكد شيخ عشيرة بني اسد على كمونة، ويقول: اذا رجعت الى تاريخ مدينة كربلاء ستجد الكثير من القوميات والثقافات استوطنت فيها”.

ويشير كمونة في حديث للخط الأحمر، الى ان المجتمع الكربلائي يعد من المجتمعات المرنة، حيث يجد الوافدين من بقية القوميات والأديان في كربلاء الترحاب، مما يسهل عليه عملية الاندماج في المجتمع المضيف.

إن الكثير من هذه الجماعات العرقية التي سكنت كربلاء كانت تتحدث بلغتها الاصلية في تعاملاتها اليومية، بل وتتباهى بعرقها وبثقافتها التي كانوا يعتدون بها، حسب قوله.

وعند ظهور الفكر القومي عند تأسيس الدولة العراقية بقوة في المجتمع، بدأ الكل يحاول يندرج تحت هذا المفهوم، حيث الجميع حاول ان يثبت عروبيته لما تعرضوا له من مضايقات امنية ومجتمعية، ويؤكد كمونة، أن مواطنين من أصول غير عراقية نجحوا في التخلص من انتمائهم العرقي والاثني والانتساب لقبائل عربية، مردفاً، اذ يعدها كثيرون من العرب “مثلبة ان لم تكن عربيا”.

ويستطرد، بانه عند استلام صدام لمقاليد الحكم في العراق، بدأت المضايقات تلاحق هذه الجماعات العراقية، حيث اصدر النظام السابق قرارات تصب في صالح الفكر القومي السائد آنذاك، منها ان كل مواطن لا ينتمي لعشيرة يسجن او يطرد من البلد وتصادر ممتلكاته، مما يضطر البعض منهم الى الانتماء لإحدى القبائل وتغيير لباسه الى الزي العربي.

ويؤكد كمونة ان الفكر القومي الذي تبنته الدولة العراقية القى بظلاله على المجتمع واثر به خاصة في حقبة حكم البعث للبلاد.

وعند الخلاص من حكم البعث سنة 2003 لم تتغير النظرة المجتمعية المكتسبة من النظام البائد التي صارت اكثر التصاقاً بالعشائرية تجاه غير العربي خاصة بعد عودة العديد من الجماعات، الذين تم تسفيرهم ابان النظام السابق بتهمة “التبعية”، يوضح كمونة: عند عودة المسفرين الى كربلاء لم يستطيعوا التأقلم بسهولة مع محيطهم ولإثبات المواطنة كان لزاماً عليهم الانتساب الى احدى القبائل المعروفة. 

اثباتات لا شك فيها

ولا ابالغ ان قلت ان هناك الكثير مما يمكن تقديمه كدليل على التنوع العرقي الغني التي تتمتع به مدينة كربلاء، والباحث يستطيع الوصول بيسر الى المصادر التي تحتوي العديد من الأدلة والبراهين التي تؤكد صحة كل ما تقدم، سيما ان المكتبة العراقية تزخر بالعديد من البحوث التي تبحث عن تنوع هذه المدينة العرقي والاثني، ناهيك عن ان هذه الاقوام المهاجرة رغم الاستيطان في كربلاء واندماجها مع المجتمع منذ عقود ما زالت تحتفظ بلغتها الام.

لا تكاد ان تخلو مدينة واحدة في العراق قديماً وحديثاً من التنوع، اذ مرت من هنا عبر الاف السنين العديد من الاقوام، نسبت نفسها الى هذه المدينة او تلك بعد التوطين لتصبح جزء من قومية هي الأكبر في بلد المهجر، وذلك نتيجة لعوامل موضوعية وظروف آنية حتمت ذلك، كحال العديد من البلدان حول العالم التي تتمتع بتنوع اثني وديني، لكن تمكنت هذه الجاليات من القدرة على ممارسة حياتها ونيلها الحقوق كافة بدون تمييز عرقي او اثني او ديني ولم تضطر الى ان يخف مواطنوها اصولهم.

VIAعامر الشيباني